البنية التحتية للنقل اللوجستي في تونس رافعة للنمو أم عبء على الاقتصاد؟

أعاد تقرير البنك الدولي الصادر في بداية ماي 2025

تسليط الضوء على رافعة استراتيجية قلما تم استغلالها بالشكل الأمثل في تونس أو لنقل أثير حولها جدل واسع ولم تحسم بعد وهي البنية التحتية للنقل اللوجستي، لاسيما منظومة الموانئ والترابط التجاري.

لقد خصّ تقرير البنك الدولي فصلاً كاملاً لهذا الملف، مستعرضًا الإمكانات الاقتصادية الهائلة الكامنة في تحسين أداء الموانئ، وتقليص أوقات الانتظار، ومعالجة الاختناقات المؤسسية.لكن هل يمكن أن تتحوّل هذه البنية المعطّلة إلى محرّك فعلي للنمو؟وما هو حجم الخسائر التي تتكبّدها تونس نتيجة ضعف الترابط اللوجستي؟وما الذي يعيق هذا التحوّل هل هي الأسباب التقنية؟ أم المؤسسية؟ أم غياب الرؤية الاستراتيجية؟ولماذا نجحت تجارب إقليمية مثل المغرب ومصر في كسر الحواجز والانطلاق؟ما الإجراءات العاجلة التي توصي بها المؤسسات الدولية، وهل تملك تونس الإرادة والقدرة لتنفيذها؟

في هذا المقال، نغوص في عمق هذا الملف الشائك، مستندين إلى الأرقام، المقارنات الإقليمية، والتوصيات، لنفكك عقدة اللوجستيات في تونس نحو تحويل البحر إلى بوابة للنمو… لا إلى مرآة لفرص مهدورة.

إمكانات غير مستغلة

تتمتع تونس بموقع جغرافي استراتيجي يطل على مفترق طرق بحري بين أوروبا، إفريقيا، والشرق الأوسط. كما تضم سبعة موانئ تجارية رئيسية، أهمها ميناء رادس، صفاقس، قابس وجرجيس.ورغم هذا الزخم، لا تزال منظومة النقل اللوجستي تعاني من اختلالات هيكلية مزمنة لعل ابرزها ضعف الربط بالسكك الحديدية،و تقادم البنية التحتية، بالاضافة الى كثافة الإجراءات الجمركية، وغياب الرقمنة في إدارة السلع والمعاملات.

لقد بيّن تقرير البنك الدولي أن هذه التحديات تقلل من القدرة التنافسية لتونس كمحطة تجارية، وتكبّل قدرتها على جذب الاستثمارات الأجنبية أو الاستفادة من موقعها كبوابة للقارة الإفريقية.

فرص واعدة بشروط

رغم أن تقرير البنك الدولي لشهر ماي 2025 لا يقدّر الخسائر الحالية رقميًا بشكل مباشر، إلا أنه يُظهر حجم المكاسب المفقودة، أي تلك التي يمكن أن تحققها تونس لو حسّنت بنيتها التحتية اللوجستية.

تشير التقديرات الجديدة للبنك الدولي إلى أن تحسين ترابط الموانئ وخفض أوقات الانتظار يمكن أن يرفع الناتج المحلي الإجمالي بنسبة تتراوح بين 4 و5% خلال 3 إلى 4 سنوات فقط. أما إذا سعت تونس إلى بلوغ مستويات الترابط اللوجستي للبلدان النظيرة في المنطقة، فإن المكاسب المتوقعة ستتراوح بين 2.6 و3.5% من الناتج. وتضاف إلى ذلك مكاسب مؤسسية ممكنة تزيد عن 1% في حال معالجة الاختناقات على مستوى الجمارك والخدمات.

هذه الأرقام اللافتة تعكس حجم الفرصة الضائعة. لكنها في الوقت ذاته تفرض تساؤلات جوهرية: هل هذه النسب قابلة للتحقيق في ظل الوضع الحالي؟ وهل تملك الدولة القدرة المؤسسية والفنية الكافية لتنفيذ إصلاحات عميقة في فترة زمنية قصيرة؟

---

تجارب مقارنة المغرب ومصر

تكشف تجارب بلدان الجوار عن الطريق الممكن لتونس. فالمغرب، بفضل تطوير ميناء طنجة المتوسط، تحوّل في أقل من عقدين إلى منصة لوجستية إقليمية تربط بين ثلاث قارات، مع بنية تحتية متطورة وربط سككي نموذجي. وقد بلغ حجم مناولة الحاويات فيه أكثر من 7 ملايين حاوية سنويًا، ما جعله أحد أكبر الموانئ في إفريقيا.

أما مصر، فقد استثمرت بكثافة في تطوير قناة السويس والموانئ المحيطة بها، مما ضاعف من عائدات العبور والنشاطات المرتبطة بالخدمات اللوجستية. وتمكّنت من استقطاب استثمارات ضخمة بفضل شراكات استراتيجية وخطط إصلاح مؤسساتي.

ما الذي جعل هذه التجارب تنجح؟ إنها إرادة سياسية واضحة، تخطيط استراتيجي بعيد المدى، وشراكة فعّالة بين القطاعين العام والخاص.

إصلاحات هيكلية ومؤسساتية

يوصي البنك الدولي بحزمة من الإجراءات لإطلاق العنان لقدرات تونس اللوجستية، أهمها
تحديث البنية التحتية من خلال بناء محطات جديدة، وتجديد المعدات والتجهيزات، وتحسين إمكانية الوصول إلى الموانئ من خلال شبكة طرق وسكك حديدية فعالة.
التحول الرقمي واساسا رقمنة الإجراءات الجمركية واللوجستية، واعتماد منصات رقمية لتتبع البضائع والمعاملات، مما يحدّ من البيروقراطية ويزيد من الشفافية.
إصلاحات مؤسساتية تتبلور من خلال مراجعة تعريفات الموانئ، وتحفيز الاستثمار الخاص في الخدمات المرتبطة باللوجستيات، وتخفيف القيود الإدارية التي تثقل كاهل الفاعلين الاقتصاديين.

اما عن الربط السككي فهو يتعزز من خلال ربط الموانئ الكبرى بشبكة السكك الحديدية لخفض كلفة النقل وتسريع التوزيع الداخلي، وخاصة للسلع ذات القيمة المضافة.

هذه الإصلاحات لا تتطلب فقط ميزانيات، بل رؤى واضحة وآليات تنفيذ صارمة، إلى جانب رقابة مستقلة وضمانات للشفافية.

رؤية شاملة للموقع التونسي

إن الاستثمار في البنية التحتية للنقل والخدمات اللوجستية ليس رفاهية، بل خيار استراتيجي. تحويل تونس إلى مركز لوجستي متوسطي، عبر تطوير منظومة الموانئ وربطها داخليًا وخارجيًا، يمكن أن يكون رافعة للنمو الاقتصادي وخلق فرص عمل مستدامة.

وقد عبّر مدير مكتب البنك الدولي في تونس، ألكسندر أروبيو، عن ذلك بقوله: "يمكن أن يكون تحسين الترابط الشبكي، لا سيما من خلال تحسين الخدمات اللوجستية في الموانئ، محركًا قويًا لخلق فرص العمل والنمو الاقتصادي."

لكن هذه الرؤية تحتاج إلى ما هو أكثر من التشخيص والتوصيات إنها تتطلب إرادة سياسية، وشراكة حقيقية مع القطاع الخاص، الذي مازال يخطو بخطى محتشمة في واقع اقتصادي تحكمه العديد من التحديات وتخطيطًا استراتيجيًا يضع اللوجستيات في قلب النموذج التنموي الجديد لتونس.

فهل تنجح تونس في تحريك سفينتها… قبل أن تفوّت فرصة بحرية بمليارات الدولارات؟

 

المشاركة في هذا المقال

Leave a comment

Make sure you enter the (*) required information where indicated. HTML code is not allowed.

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115