الفنان العرائسي محمد نوير : عرائسه تتكلّم... وهو يكتفي بالابتسام !

هي عرائس تتدلّى بخيوط من حلم قديم، لا تحرّكها يد، بل ذاكرة الغيم والشمس.

وجوه من قماش لكنّها تعرف الغناء، وعيون من خشب لكنّها تحدّق في الأشياء بكبرياء. إنّها ليست دُمى بل أرواح متمردة، تشي بعبق أنامل الجدّات، وعطر الحكايات الأولى. لكلّ عروسة حكاية نسجها خشب نخلة لم تنس أن تبقى شامخة، أو حلفاء ودّعت السباسب، أو وشاح تمزّق في الشتات. يمسك الفنّان مواده الأولية بحنوّ كأنه يمسك قلبه بين يديه، يُمرّر الإبرة، كمن يخيط غيابا. يهمس الفنان العرائسي التونسي محمد نوير لعرائسه: " قولي، انفعلي، انفجري" ! فتستفيق اللغة وتتحرك الدمية، ويبدأ العرض.

 في أعالي جبل سمّامة، تنفلت الحكايات الملهمة كما تنبت الأعشاب البرّية: بسحر غامض، بعناد آسر، بجمال خام... هناك، بين تراب الأرض وقلب الذاكرة، يعمل الفنان محمد نوير على خلق عالم من الدمى، لا يشبه إلاّ روح المكان ورجع صدى الجبل المسكون بالأسرار العصيّة عن فتحها بمجرد الضغط على الأزرار.

جبل سمّامة ينطق بلسان الدُمى

من الوجوه العطرة الحضور والكريمة المرور في مشروع المركز الثقافي الجبلي للفنون والحرف بسمّامة منذ المحطات الأولى لافتتاحه، يطل العرائسي محمد نوير بوجهه البشوش وابتسامته الدافئة والودودة ، ليقول: "من هنا عبرت وتركت الأثر وصافحت بحرارة مؤسس المشروع عدنان الهلالي بكف تواطأت مع كفّه على نجاح يُروى بالكد ويُزهر بالصبر، فاشتعل الحلم بين الأصابع نورا وأملا..."
في حراسة المخيال الشعبي، وانتصار لفن مستدام يولد من رحم الأرض، ويعود إليها بالحب.لا يصنع محمد نوير الدمى للّعب، بل للبوح، ولا يحرّكها بالخيط، بل بالحنين، ولا ينحتها بيده فقط، بل بروح المكان. يقول محمد نوّير:"أنا لا أصنع دمى... أنا أستخرج وجوها أصيلة وجميلة ونبيلة خبّأها الجبل في طيّاته. وحان الوقت ليكون لها صوتا بعد الصمت. "
في المركز الثقافي الجبلي للفنون والحرف بسمّامة، يشتغل محمد نوّير في ورشته المفتوحة على الطبيعة، ناحتا أرواحا من صوف وخشب، لا لتسكن في الأدراج، بل لتنتفض وتحدّث عن الأحلام والجمال والإنسان.. . بخامات عضوية مستمدة من الطبيعة وصديقة للبيئة من صوف وحلفاء وأخشاب ونسيج محلّي، أشرف محمد نوير في "عيد الرعاة" بجبل سمّامة على "ورشة عرائس النجع" المستخرجة من جلود الأغنام. وبدعم من الكونفدرالية الألمانية لتعليم الكبار، لم تتوقف هذه الورشة الإبداعية بانتهاء الدورة 13 لعيد الرعاة في شهر أفريل 2025 ، بل ستتواصل طوال فصل الصيف، حيث تتحوّل صناعة العرائس والدمى إلى جسر بين الأجيال. فعندما يجلس الأطفال جنبا إلى جنب مع شيوخ القرى، تتلاقى الأيدي وتتشابك الحكايات، ويتجسد التراث بخيوط من حنين وشجن وطين الأرض.
وربما لأن الفنّ لا يزهر خصبا ودلالا إلا إذا حملته النساء، أطلق محمد مبادرة نوعية تتمثل في تكوين نساء الجبل في فنّ العرائس." يتساءل محمد نوير مازحا :" أليست صناعة العروسة والدمية صنعة الجدات وموهبة الأمهات في بداية الحكاية ،ثم جئنا نحن الرجال لنسرق منهن الخيوط والقماش والحرفة... لذلك تبقى النساء حارسات الحكاية والذاكرة وسفيرات الهوية، ومن أقدر منهنّ على إعطاء الدمى نبضا صادقا يحكي الوطن ويحاكي العالم ؟"

خيوط تحرّك الذاكرة

أكثر من خمسين سنة، ومحمد نوير يصادق العرائس ويبعث في جمادها حياة. كبر هذا الفنان الحالم ولم تكبر في عينيه دهشة طفل لم يكفّ يوما عن طرح الأسئلة ومطاردة الجمال. منذ نعومة أظافره، انجذب هذا الفنان إلى فنّ العرائس، حيث علّمته الدمية في ما بعد فلسفة مفادها أنّ الفن ليس ما نملك، بل ما نستطيع أن نخلقه من اللاشيء. لم يكن تكوينه الأكاديمي في المسرح سوى بداية الطريق. ليختار التخصص في فن العرائس، لا لأنّها الأسهل، بل لأنها "الأصدق"، كما يقول. في زمن يتكلم فيه الجميع، آمن هو بأنّ الدمية تعرف متى تصمت، ومتى تتكلم بحكمة.
محمد نوير ليس فقط فنانا، بل مُعلّم أيضا. جال المدارس والمناطق الداخلية حاملا عرائسه كما يحمل الحكيم كتبه، ينفث من خلالها قصصا عن الحرية، عن التعايش، عن التسامح، عن الجمال الذي يكمن في الاختلاف ويسكن في التفاصيل. طاف بمسرح عرائسه المتنقّل بين الأرياف والمدن، حاملا أدواته وأحلامه كما يحمل العاشق دفتر أشعاره. في المناطق المنسيّة، كانت عروضه بمثابة مشكاة من نور، تقول للأطفال إنهم مرئيون، مسموعون، وإن الحلم ممكن حتى من قطعة قماش وخيط.
لم يكن أستاذ المسرح وفنان العرائس خطيبا على منصّة، بل حكيما جالسا بين الصغار، يعلّمهم كيف يصنعون الأمل من جورب قديم، وكيف ينفخون الحياة في قطعة قطن. وقد تقول دُماه عنه إنّه لا ينام إلا إذا غفت إحداهن على كتفه، ولا يبتسم إلا حين تصفق له عيون الأطفال لا أيدي الكبار.هو فنان لا يلاحق الشهرة، بل يفتش عن لحظة تُصدق فيها الدمية أنّها ناطقة، ويُصدق فيها المتفرج أنه كان يوما طفلا يضحك، ونسي الطفل الذي فيه أن يكبر !

ظلال تلاعب الضوء

في متاهة الزمن المتلاطمة، حيث تتقاطع اللحظات وتتفكك المعاني، يظهر محمد نوير كرّحالة بين العوالم، يصنع من العدم شكلا، ومن الصمت موسيقى، ومن الظل نورا. هو الذي وجد في العرائس لغة تكشف عن جوهر الإنسان، عن طفولته الخالدة، وعن تلك الغرابة الجميلة التي لا يفهمها إلا من يملك قلبا يتوق إلى الغيب.
بدأ نوير رحلته في السبعينيات، في حضن معلمه المغربي حسني العلوي بن عيسى، الذي لم يعلمه فقط فن تحريك العرائس، بل دربه على التأمل في الوجود عبر هذا الفن الصغير، الكبير. ثم انضم إلى المجموعة المؤسسة لمسرح العرائس في تونس بإدارة محي الدين بن عبد الله، حيث تشكّلت هويته الفنية، وانبثق فكره من رحم تلك الحكايات التي لا تنتهي، وتلك الجماليات والتعبيرات التي يتشابك فيها الفكر مع الإحساس، ليصبح الفن فعلا فلسفيا ينبش في الذاكرة الجماعية.
على منصات التكريم والتتويج، وقف محمد نوير لأكثر من مرة لا ليحتفل بنفسه فقط، بل ليقتسم النجاح والأضواء مع رفيقة دربه في الفن والحياة الفنانة العرائسية "أحلام ميسار"، مؤكدا أنّ الفن هو مسار حياة مشترك، وسفر روحي متواصل، لا ينتهي بإسدال ستارة المسرح. وتبقى أجمل لحظة عند الفنان ليست التصفيق بعد العرض، بل الصمت الذي يسبق الدهشة... المذهلة !

 

 

 

المشاركة في هذا المقال

Leave a comment

Make sure you enter the (*) required information where indicated. HTML code is not allowed.

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115