طوبى للمتمسكين بحقوقهم والمؤمنين بدورهم في التغيير وتأسيس تظاهرات تنصت فقط للانسان وتتجه اليه اينما وجد، طوبى لمن زرعوا المسرح والفرجة فحصدوا الكثير من الترحاب والحب.
في فطناسة فتحت الصحراء ابوابها للجميع، احتضنت العروض وظللت بتخيلها الفنانين واستقبلت صناع الجمال ضمن فعاليات الدورة الخامسة للمهرجان الدولي للمسرح في الصحراء الذي راهن على الانسان وكسب الرهان لتزهر عيون الاطفال فرحة، فكان اللقاء ثقافيا وانسانيا انصهرت فيه كل تعاليم الحياة.
عرض "رسائل" اخراج صادق مكي من العراق:
المسرح سلاحنا لنوصل نضالاتنا الى العالم
تماهت الطبيعة مع وجع الحكاية، قبلي القديمة بمنازلها المتآكلة وجدرانها المتراصة وبقايا حياة فيها، بقايا قصص واثار من سكنوا تلك المدينة التي كانت عامرة ذات يوم، في هذا المكان الميت/الحي كان الانسجام الكلي بين الفضاء والعرض المسرحي المقدم للجمهور "رسائل" اخراج صادق مكي و تمثيل وسام عبد السلام موسيقى زيدون ال سلطان.
فالمخرج اختار المكان لانه يتناص مع وجع الحكاية وينسجم مع مدلولاتها الابداعية، فالعمل ينقل القليل من الدمار والخراب الذي تعيشه غزّة، وتلك الحجارة المترامية والرماد المتناثر في الارض جميعها شكلت سينوغرافيا طبيعية زادت العرض جمالية "الخراب مثل وسيلة للوصول الى روح الجمهور، فغزة اليوم دمار وركام يشبه هذا المكان".
صوت الرصاص يصنع موسيقى للعرض، ينخرط الممثل في حالة التجلي مع نصّه وافكاره، حرارة الشمس في يوم صيفي قائظ مثلت هي الاخرى جزء من سينوغرافيا العرض واجبرت الجمهور ليعايش القليل من وجع النزوح والانهاك اليومي الذي يعيشه ابناء غزة في ترحالهم منذ 7اكتوبر، حتى مرور طائرة مروحية عسكرية صدفة وقت العرض اضافت جمالية اخرى.
"رسائل" صرخة انسان عن الوجع الذي يعيشه ابناء غزة، تتبع للرسائل المبعوثة الى الله من الناس يسالونه عن حجم الخراب ويطلبون السلم، تتبع لقصص اناس قدموا الدم لاجل الارض ورصد لاحلام اطفال سرقت بفعل الحرب.
مسرحية "رسائل" من انتاج شعبة المسرح المعاصر في العتبة الحسينية، كربلاء دولة العراق هي اهداء الى الشعب الفلسطيني الذي لازال يقاوم من اجل الارض والعرض والعمل به عدة رسائل اهمها الثبات والمطالبة بالحرية والحقوق رغم التعتيم الاعلامي الذي تعيشه غزة، وفي نهاية العمل نقول ان غزة باقية وثابتة ولا بد لاهل الارض ان يرجعوا حسب تصريح مخرجه صادق مكي للمغرب.
ويضيف محدثنا ان هناك تشابه بين الشعبين الفلسطيني والعراقي فالشعب العراقي خاض اكثر من معركة واثبت ان هذه الارض ملك له، "خضنا العديد من المعارك وعشنا الكثير من الحروب لكننا دائما ننتصر لارضنا ونثبت وندافع، وما عشناه من ظلم الطغاة لامسناه الان في الاراضي الفلسطينية ولامسنا شعور الفقد والجوع، لذلك حاولنا ان نكون صوتهم عبر المسرح.
وعن المهرجان يقول صادق مكي الاجواء ليست غريبة عنا، نشارك للمرة الثانية الجمهور جميل جدا مدن بعيدة لكنها واعية ثقافيا، والاحتفالية والكرنفال والعروض يصنعون مشهدية جميلة للحياة.
عرض"قوم يابا" لقاسم اسطنبولي من لبنان:
المسرح سلطة لتحقيق لامركزية الفنون
الثقافة رسالة ومبدا، الثقافة دفاع عن القيم الكونية ومحاولة لايصال اصوات من لا صوت لهم، من جنوب لبنان الى جنوب تونس جاء قاسم اسطنبولي محمّلا بقضايا وطنية وانسانية وثقافية، وهو فنان منخرط في مسارات التغيير عبر الثقافة، يقدم فعل مسرحي مختلف ينصت فيه الى حكايات الناس ويوصل اصواتهم من خلال الفن، ويدافع عن لامركزية الثقافة في بلده لبنان، فالفنّ رسالته ووسيلته للتعبير عن أهم القضايا الكونية، القضية الفلسطينية.
امام جمهور قرية فطناسة الدبابشة كان الموعد مع قاسم اسطنبولي ليقدم عرضه "قوم يابا" عمل مسرحي حكائي يجسد نضالات الفلسطينيين وتمسكهم بأرضهم ضد ماكينة الحرب "الصهيونية"، ابن مدينة سور حمل على جسده اوجاع الهجرة واستنطق بقلبه حكايات ملايين الفلسطينيين، باسلوبه الفريد في الحكي قدّم البعض من قصص حقيقية عاشها كل فلسطيني منذ 1948الى اليوم.
"قوم يابا" صرخة اخرى قدمت من قلب الصحراء ليتردد صداها في ارجاء المكان وتحملها الرياح كما صوت الرصاصة معلنة انّ طالما هناك شباب يؤمن بالقضية ويدافع عنها فلن يتيه صوت الفلسطيني وسط زخات الرصاص والموت، العمل ينقل بعض القصص في سردية المقاومة والخيانات التي عاشها الفلسطيني بسبب الوحدة العربية المزيفة "قوم يابا ما تخفش، الجيوش العربية جاية، اكيد جاية من 67ونحن ننتظر"، نص يرشح الما ووجعا وفي الوقت ذاته مسكون بطاقة العزيمة والنداءات الازلية لحرية ارض فلسطين من النهر الى البحر.
"قوم يابا" صرخة ضد الظلم والاحتلال، تذكير بنضالات من يدفعون الدم لاجل الارض، كوفية واهازيج النساء وضحكات الاطفال صنعت سينوغرافيا العرض، الذي انتهى باعلان عن استحالة هزيمة انسان يؤمن انه صاحب القضية، فلو قتّلوا وشرّدوا وسرقوا الطبيعة والارض لن يباع الوطن "هذا الوطن مش للبيع" وهي اخر كلمات اسطنبولي في عرضه.
قاسم اسطنبولي ابن الجنوب اللبناني يحمل الثقافة بين جنبات القلب ويعمل على ترسيخ فعل ثقافي انساني، في تصريحه للمغرب اكد "انجاز مهرجان بهذا العدد من العروض في هذه المنطقة الصحراوية امر مذهل واعتبره تحديا حقيقيا لاجل الانسان، جميلة هذه المبادرات الصادقة والحقيقية لان هدفها الاول هو الطفل وانا اشتغلت كثيرا على مسرح الطفل واعرف جيدا صدى مثل هذه المنجزات عليه، نحن نتشارك فكرة الدفاع عن القيم والانسان من خلال الفنون".
واضاف اسطنبولي انه وباختلاف المكان لكن الفكرة متشابهة وهي تحقيق لامركزية ثقافية، فالاسطنبولي مثابر ومناضل استطاع صحبة فريق مصغّر اعادة الحياة الى قاعتين للسينما واحدة في سور والاخرى في بيروت وكما اسس المسرح الوطني اللبناني، اول مسرح مجاني في لبنان والهدف خلق مساحة ثقافية عامّة مستقلة و مفتوحة للجميع، فقاسطنبولي يعمل منذ 17عام علامركزية ويهدف عبر مشاريعه الفنية الى كسر جميع الحواجز في لبنان وربط البلاد من خلال الفن، لانّ الثقافة حق للجميع يجب ان يتمتع به كل مواطن.
عرض "اشلاء المسافة صفر" لنزار الكشو: سردية الاحتجاج بالمسرح
ثلاثة ايام من التناص مع الشخصية، والتزام بمبادئها وحكاياتها، ثلاثة ايام عايش عبرها الجمهور قصص الفلسطينيين وهتف الاطفال بصوت واحد "تحيا غزة"، هكذا كانت الرحلة مع نزار الكشو الذي عايش 115 محطة و ( 112 ) صرخة و أكثر من ( 470 ) يوم إبادة و أقل من ( 50 ) يوم هدنة لتأثيث مشروع فني إحتجاجي أدائي يحمل عنوان " أشلاء المسافة صفر".
هي رحلة يخوضها الاعمى "عبد البصير" للبحث عن النقطة الضائعة، فالنقطة سقطت من "غزة" وتحولت عزّة الى طالبة تبحث عن تاريخها، "عبد البصير" فاقد البصر وقوي البصيرة سيرتحل من مكان الى اخر باحثا عن هذه النقطة، تلك النقطة رمز للصمود ومحاولة الحفاظ عليها واجب تاريخي وثقافي، فالنقطة الصغيرة فوق حرف "الغين" في اسم غزة تشبه تماما تلك النقطة على "غين" بغداد، او "قاف" قرطبة، وما سقوطهما الا بسبب عدم الانتباه للنقطة كما تقول الشخصية في ترحالها.
"اشلاء المسافة الصفر" عرض مسرحي شارعي اساسه التفاعل مع الجمهور، قدم اولا في فضاء "البرطال" الثقافي بقبلي القديمة، ثم في مدرسة النجاح امام جماهير من اعمار وافكار وفئات مختلفة، عرض فني انساني يخترق القلب ويخاطب عقل المتلقي مباشرة ليحفزه علّه يتساءل "ما الذي قدمته لاخوتي في غزة منذ اندلاع الحرب؟ هل قاطعت عالاقل المنتجات التي تدعم الكيان؟"، العرض يقوم على الارتجال والتفاعل مع الجمهور مباشرة، تجربة فنية يحمل عبرها نزار الكشو هواجس الانسان الفلسطيني ويحاول بصوته وجسده انّ يقدّم القليل من حكايات طمرت تحت الركام.
نزار الكشو فنان ملتزم بالقيم الكونية للانسان، يؤمن ان الثقافة قادرة على التغيير، يتزود باليات المسرح ليكون صوتا للحالمين والباحثين عن الحقيقة، فنان يتجوّل بشخصياته المختلفة ويتماهى معها في تعبيرات فنية صادقة، سبق وان شارك في المهرجان الدولي للمسرح في الصحراء وعن التجربة يقول "لم تكن مشاركاتي مجرد تجربة فنية ، بل كانت دهشة خالصة فالمهرجان لا يشبه سواه. هنا ، لا سقف للمسرح إلا السماء، ولا مقاعد للجمهور سوى الرمال، ولا حدود بين الممثل والمتفرج، الكل على مرمى ضوء وقلب".
في صحراء "قبلي"، تتحول الرمال إلى مقاعد للانتظار، والنجوم إلى مصابيح للعرض، والناس إلى عشاق مسرح لا يُقصى فيه أحد. نساء ورجال، أطفال وشيوخ، من كل الطبقات، يتوافدون بلا دعوة، بلا تكلّف، يأتون فقط لأن المسرح هنا ليس ترفًا، بل حاجة، كالماء، كالحنين،كالوفاء، كالقصيدة، كل العروض مجانية لكن قيمتها لا تقاس بثمن،هي عروض تنقد، تحاور، تقاوم النسيان. تنبش في قاع اليوميّ، وتزرع في الرمل بذور الأسئلة: من نحن؟ ولماذا نروي الحكاية؟ وعلى أي خشبة نقف حين تضيق بنا المدن؟ كما يقول الفنان الملتزم بقضايا المسرح والانسان نزار الكشو.
الجمهور بوابة النجاح الاساسية
تحولت الصحراء الى مدارج مفتوحة، اصبحت الواحة فضاء للعروض والورشات وكتابة احلام الصغار، هنا قرية فطناسة الدبابشة من معتمدية سوق الاحد ولاية قبلي، بعيدا عن المركز اسست مسارات الفرحة والاحتفال من خلال فعاليات الدورة الخامسة للمهرجان الدولي للمسرح في الصحراء الذي استقطب طيلة عروضه الكبرى قرابة 10الاف متفرج من فطناسة وبشري وزاوية العانس ونقة وغيرها من القرى التي تحوّل ابنائها ليستمتعوا ويكتشفوا ملامح فنون متجددة.
وزعت صكوك الفرحة مجانا للاطفال، استمتع الصغار بعروض موجهة لهم على غرار مسرحية "موشكا" والتقى الكبار بعروض فرجوية وملحمية منها "ملحمة عروش" اخراج صالح الجدي و"العرس" اخراج كريم خرشوفي و"الرحلة" اخراج جلال حمودي والاختتام مع "المحفل الجربي" للفنان شريف علوي، ولابناء المدينة نصيبهم من الابداع بعرض ّمازلنا" الذي قدمه ابناء نادي المسرح بفطناسة، فكانت اللقاءات بمختلف مساراتها الفنية مساحة للفرحة وللحلم ولابراز مقومات الجمال في جغرافيا الجنوب التونسي.
توزعت العروض على اكثر من فضاء ولامست كل الشرائح العمرية تقريبا، انخرط المهرجان في مسار فك العزلة الثقافية وايصال الفنون للمواطنين اينما وجدوا، بعثت حركية مختلفة في القرية، لامست بائعات "المطبقة" و الصناعات التقليدية، حتى الشيوخ الملتزمين بلعبة "الخربقة" تركوا احجارهم واتجهوا لساحة العروض وتحولت الحجارة الكلسية الى فضاء للتصوير وانجاز اللقاءات الصحفية المصوّرة، فالقرية بكل جزئياتها الجغرافية والانسانية كانت فضاء للحب طيلة ايام المهرجان.
في فطناسة- الدبابشة كان الموعد، اختلفت اللهجات واللغات والانتماءات ووحدتهم الفنون، ضيوف صحراء تونس من كرواتيا وايطاليا ونيوزلندا والعراق ولبنان والهند جميعهم انخرطوا في تاثيث مسار للفرحة وللجمال، وكلهم رقص على ايقاعات "الزقايري" واعلنوا انّ الثقافة قادرة على احياء انسانية الانسان والثقافة افضل السبل للدفاع عن جميع الحقوق.
في هذه القرية الصحراوية كان اللقاء بين الفن والانسان، كتبت سردية جديدة عبر المسرح تاسس لفعل ثقافي مقاوم، تجربة حياتية تمزج جمالية المكان بسحر المسرح والشعر، فكانت العروض باختلاف مشاربها سبيل للحرية، ففطناسة الصغيرة فتحت قلبا كبيرا لكل الحالمين والباحثين عن جماليات متجددة.
حافظ خليفة: فارس المهرجان ونحّات مساراته
يدافع عن جنوبه بالفن، يعمل لتحقيق لامركزية ثقافية حقيقية بعيدا عن الشعارات، يتوغل في مناطق منسية ليحييها بالثقافة، فنان ومسرحي امن بقدرة الفنون على نحت حياة مختلفة ومسارات جمالية حقيقية، حمل على عاتقه مسؤولية فك العزلة الثقافية عن القرى والمدن الصحراوية في ولاية قبلي التي ينتمي اليها.
المخرج والمسرحي حافظ خليفة مدير المهرجان وصاحب الفكرة الاساسية انخرط في مسار فني وحقوقي وانساني منذ خمسة اعوام ليلد المهرجان فكرة صغيرة ويتحوّل الى دولي تاتيه العروض والضيوف من اماكن مختلفة، في المهرجان الدولي للمسرح في الصحراء "العفوية" ميزة اللقاء كما يقول خليفة كلما اخذ المصدح، وبفريق عمل صغير استطاع خليفة النجاح وتحقيق جزء من احلامه لتكون الصحراء موطن للحياة والفنون.
يقول حافظ خليفة ان الهدف الاساسي للمهرجان فك العزلة الثقافية وتثمين القرى وتطويع الكثبان لتكون مدارج، ومقاومة التصحر بالفنون فالمهرجان قافلة تنموية وثقافية، بعد خمسة اعوام وصلنا الى النضج رغم شح الموارد والعراقيل لكننا نحاول، سعيد جدا ان اعادة الاعمار السياحي يبدا بالمسرح، بفضل المهرجان عادت الحياة للاستراحة السياحية الموجودة بالدبابشة، المخيمات الشبابية مليئة بالشباب الراغب في الاكتشاف والسلط الجهوية امنت بالمهرجان لانه مختلف عفوي يلامس الجمهور ونحاول ان نسوق تجربة فرجوية جديدة هكذا يمكن القول اننا نجحنا.
حافظ خليفة مؤسس المهرجان والمدافع الشرس عن حق ابناء الصحراء في الفنون، يطل على الجمهور في اغلب العروض باللباس التقليدي للجهة لتكون هويته معه وجزء من مسيرته، خليفة ينحت في صخور النسيان، يحاول صحبة فريقه ان يكون صوتا لابناء الصحراء وياسس للقرى الصحراوية مساحة للابداع، هو فارس حقيقي من فرسان البلاد، فارس يدافع عن الثقافة وحق ابناء البلاد في فرجة مسرحية وفنية محترمة، فارس يدافع عن القيم والثقافات المحلية والخصوصية كوسيلة للتعريف بالجهة وابراز نضالات ابنائها لضيوف المكان، ليكون المهرجان الدولي للصحراء لبنة ثقافية وتنموية تدافع عن الانسان، واكد حافظ خليفة انه مازال امامهم 3محطات في ولاية قبلي الاستعداد للرحيل والتجوال في ولايات اخرى صحراوية، فالمهرجان يحمل في طياته توجه ثقافي لبناء الانسان.