مرايا وشظايا : شكري المبخوت تمنّى أن تكون مُعلّقة قارّة لمعرض الكتاب: فسيفساء "فرجيل"... الأقرب، الأعمق، الأجمل!

هناك لوحات لا تُعلّق على الجدران، بل تَعْلَق في الذاكرة.

وفي متحف باردو، لا تتباهى فسيفساء "فرجيل" بأنها لوحة وحيدة ونادرة في العالم تعود إلى القرن الثالث ميلادي بل تتجلّى في جمال ساحر وغموض آسر كنداء شاعري، كهمس قديم، كسّر خطير يُحدّث عن قرطاج الأدب والشعر والكتب...

تتلألأ لوحة فرجيل كجوهرة خالدة تسرد حكاية الشعر والفنّ والحكمة. لم تكن مجرّد فسيفساء، بل كانت نافذة مفتوحة على عالم الفكر الروماني، حيث يجلس الشاعر الشهير فيرجيل، تحفّه ربتا الأدب والمأساة، ممسكا بكتاب "الإنياذة" كأنه يهمس للتاريخ: "أنا الكلمة التي لا تموت".
في سنة 2017 جلس الروائي شكري المبخوت على كرسي إدارة معرض تونس الدولي للكتاب وهو يحمل على كتفيه ليس عبء المسؤولية فحسب، بل لقب أول روائي تونسي والوحيد إلى حد الآن يفوز بجائزة البوكر للرواية العربية عن "الطلياني" سنة 2015. وقتها اختار لوحة فرجيل تونس لتكون معلقة وعلامة وهوية بصرية لمعرض الكتاب، وأوصى على عتبة الأمنيات - التي لم تتحقق - بأن يتم الحفاظ عليها في الدورات المقبلة ليس فقط لجمالها الفني الأخّاذ، وقيمتها التاريخية الكبيرة بل لأنها تختصر رحلة الإنسان مع المعرفة، من الحبر إلى الحجر، ومن القصيدة إلى اللوحة. إنها ليست فسيفساء من الحجارة فقط، بل فسيفساء من القيم الإبداعية: الشعر والتأمل والإبداع.
لوحة فرجيل لا تُشاهد... بل تُقرأ. كانت لتكون لوحة فرجيل المعلّقة الأقرب والأعمق والأجمل والأكثر انسجاما مع تاريخ معرض تونس الدولي للكتاب ، لما ترمز إليه من عمق ثقافي وحوار خالد بين الكلمة والصورة ولما تؤكده من ثروة فسيفسائية نفيسة في تونس أمام كل أنظار العالم.
في فسيفساء فرجيل، يجلس الشاعر الروماني "فرجيليوس مارو" بهدوئه المهيب، يتصفح صفحات "الإنياذة"، محاطا بملهمتين: ملهمة الشعر البطولي "كاليوب"على يمينه، وملهمة المسرح "ميلبومان" على يساره. هذا المشهد لا يعكس فقط لحظة تأمل فردي لشاعر خالد، بل يمثل حضارة بأكملها جعلت من الأدب والخيال أعمدة لها.
إنّ معرضا دوليا يحتفي بالكتاب، ويستقبل آلاف الزوار وعشرات الضيوف ودور النشر، يحتاج إلى رمز يتجاوز اللحظة، وإلى صورة تُحفّز التأمل، لا مجرد لافتة بصرية. وللأسف جاءت معلقة معرض تونس الدولي للكتاب هذا العام في شكل كتاب تتناثر منه الحروف، في صورة معتادة ومكررة أصبحت "كليشيه" بصريا مستهلكا ومملا.
تماما كفسيفساء فرجيل، يُفترض أن يكون زائر المعرض: قارئا، متأمّلا، مُستلهما. ولو عُلّقت لوحة فرجيل على واجهة المعرض، لكانت بمثابة دعوة مفتوحة لكل زائر كي يتأمل، يقرأ، ويتّصل بسلسلة من المعاني التي تبدأ من الإنياذة وتنتهي عند اليقين بأنّ المعرفة تُصنع مثل الفسيفساء: قطعة قطعة، صبرا وشغفا ونورا !

المشاركة في هذا المقال

Leave a comment

Make sure you enter the (*) required information where indicated. HTML code is not allowed.

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115