تكفي يد امرأة لتضئ النجوم قبل ليلها، تكفي يد امرأة ليبتسم زهر عبّاد الشمس قبل موعده... وفي مشوار الحياة، تمتلك ونيسة الهلالي فلسفة خاصة وملهمة. وهي التي تعتبر أنّ الإنسان عليه أن يختار الطريق التي يستحق تعب أقدامه. فالحكمة ليست في أن نتجنّب المشقة، بل في اختيار العناء الذي يُضيف العنوان والمعنى لحياتنا.
ستّون عاما وأكثر، وونيسة الهلالي لم تتعب ولم تستسلم ولم تفقد شغف التعلم والابتكار. ومهما تعبت خطاها، فإنّها تكمل السفر في الضوء والبحث عن منفذ آخر للشمس... إنها ببساطة حرفية عصرية وليست "نمطية" تعيد تشكيل المادة من العدم، وإنتاج المعنى من اللاّمعنى !
من فلاحة إلى حرفية ... وأكثر من موهبة !
على كف الحياة، تكتب ونيسة الهلالي دون قلم اسمها بأحرف من تاج كامرأة تونسية الهوية والهوى تهش الذئب عن أغنامها وأرضها وجبلها.. حيث تختصر سعادتها في مطر يروي التراب وينبت الحرث ويهب النفس أملا ونقاء يخفف من يوميات الشقاء. كجلّ نساء الأرياف وتونس الأعماق، كان قدر ونيسة الهلالي أن تكون فلاّحة، أن تكون ملح الأرض ومشكاة نور في حقلها وبيتها. مرّ عمرها كسنابل بذرت أكثرها وحصدت أقلّها، لكنها لم تحرم الفقراء يوما خبزها وابتسامتها وبشاشة وجهها.
وقد أصبح ليومياتها معنى آخر وشكل مختلف وبعد جمالي عالمي بعد ولادة المركز الثقافي الجبلي للفنون والحرف بسمّامّة. ببهجة الطفولة وحيوية المتعة، تقول ونيسة الهلالي: "كل العبارات والأوصاف لا تسعفني في الحديث عن التغيير الجذري الذي أحدثه تأسيس المركز الثقافي في جبل سمامة في حياتي وفي حياة كل سكان المنطقة. لقد فتح لنا هذا المركز أبوابا جديدة للرزق وآفاقا أرحب للتصميم والابتكار ونافذة جبلية على العالم. فليس من الغريب أن نجد بين فضاءات المركز ألفة وسكينة وكأننا في بيوتنا، ونتعلم منه كأننا في مدرسة فنون... بين فضاءات المركز وضيوفه، نتعلم كل يوم كيف نهب لأحلامنا أجنحة، وكيف نترك الأثر في جغرافيا المكان وخارطة الزمان".
كمن نجا من طوفان الروتين اليومي المعتاد والمتوارث من الجدات إلى الحفيدات في رعاية الأغنام وإعادة تطويع الحلفاء، قفزت ونيسة الهلالي إلى سفينة المركز الثقافي بسمامة لتبحر بعيدا في إطلاق العنان لخيالها المبدع على السليقة ولأناملها الفنان بالفطرة.
فلم تعد تكتفي بابتكار أشكال جديدة لنبتة الحلفاء بل صارت تعيد رسم لوحات الفنان الشهير "فان ڤوغ" بالصوف والقماش، وتقوم بتقطير النباتات الطبية والعطرية...
هناك في مركز سمامة، تراوغ ونيسة الهلالي شبح الغياب وعواء الذئب بضجيج الأشياء وذكاء النساء في أن تكون تحت الأضواء.
تقطير الزيوت: غذاء ودواء
في الربيع تبتسم الطبيعة، فتبتسم معها ونيسة الهلالي وهي ابنة الأرض العطرة بإكليلها وزعترها وآثارها... ولأنّ منطقة "الوساعية" في سفح جبل "سمّامّة" بسبيطلة تتحوّل في الربيع إلى فسيسفاء من الزهور والطيور والعطور، فإنّ ونيسة الهلالي تصنع بدورها ربيعا آخر ودورة حياة جديدة في جسد النباتات الطبية والعطرية بتحويلها إلى زيوت ذات فوائد طبية وصحيّة وتجميلية...
تشبه ونيسة الهلالي في عطائها الربيع، وهي السيّدة البسيطة التي علمتها الطبيعة الحكمة والصبر و"إخراج الحيّ من الميّت" في تضاريس وسباسب تخضر وتصفر من حولها في دورة الفصول. وفي كل الفصول تتسلّح "ونيسة" بعزيمة من حديد، فتعاند الخريف في شجنه وعواصفه، وتنسج للشتاء أغطية وملابس، وتواجه هجير الصيف بظلال الشجر، وتتواطأ مع الربيع لقطف ألف حزمة وحزمة من نباتات الجبل لتتقاطر بين يديها زيوتا طبيعية يتزايد عليها الطلب محليا وعالميا. فاليوم، يعِد قطاع تقطير الزيوت الطبية والعطرية البيولوجية بمستقبل واعد في ظل النفور من أضرار المواد الكيميائية والإقبال على التداوي بالأعشاب وبالزيوت البيولوجية.
في المركز الثقافي الجبلي للفنون والحرف بسمامة، تشرف ونيسة الهلالي على ورشة تقطير النباتات، وتتوافد الحرفيات على هذا المخبر الكامل العدّة والعتاد، لتنطلق من هناك قصة بطولة نسائية في ترويض خشونة الأعشاب ونباتات الجبل من إكليل وشيح وڨزيح وعرعار والقائمة تطول... لتتحوّل إلى زيوت تضيء كسراج وتنفع الإنسان غذاء ودواء.
"البّطاشيّة" تراث وفنّ في رسكلة القماش
في مشهد واقعي لامرأة تجلس أمام السدّايّة (المنسج)، قد ينتظر الكثير انتهاء الأصابع من نسج الزربية أو المرقوم أو "البّطاشيّة" (كليم شوالق)... ولكن لا أحد يدري أي ذكريات، أي صلوات، أي أمنيات رافقت الأنامل في رحلة النسيج وسفر دقات المنسج ما بين صعود وهبوط. وأمام السدّايّة، تجلس الحرفية ونيسة الهلالي في عزلة عمّا حولها وفي حديث صامت مع خرق القماش الخرساء لتتحوّل إلى أنسجة ولوحات تعج بالضوضاء وبصخب الألوان والأشكال والجمال.
لا حدود لطموح ونيسة الهلالي في التكوين والتجريب وهي الذكية واللّماحة وذات العيون الوقادة نباهة وطيبة. فتدرجت على سلم الابتكار من حرفية عادية إلى مصممة في مجال رسكلة بقايا القماش. وبعد أن تابعت دروسا في "السيميوديدامتيك" (علم الرموز) تحت إشراف الأستاذة الجامعية منية مناعي، لم تعد ونيسة الهلالي تكتفي بنسج النقوش الأمازيغية والأشكال المتوارثة من التراث بل صارت تقترح جماليات جديدة في تصميم الحقائب واللوحات و"البّطاشيّة" .. وقريبا تستعد الحرفية ونيسة الهلالي إلى تنظيم معرض خاص بها يستعير مربعات الشطرنج من لوحتها لتتجسد على القماش مفروشات ولوحات. وفي الوقت الذي أصبحت فيه نجمات هوليوود وضيفات مهرجانات السينما تلبسن فساتين من بقايا القماش مناصرة لقضايا البيئة ولكوكب الأرض، تمتلك ونيسة الهلالة خبرة طويلة وموهبة فريدة في فنّ رسكلة القماش حيث تصبح "البّطاشيّة" عنوان هوية وخصوصية في عصر العولمة والتشابه حدّ الاستسناخ.
كما تحرس ونيسة الهلالي أرضها وحماها، فإنها تحرس الحرفة والهوية المحلية ووصية الجدّات في حفظ سر الصنعة. كما لا تكل ولا تمل في ابتكار أشكال أخرى لإبداع متجدد ومعاصر لتراث غير مادي عصي عن التقليد. ولسان حالها يقول كما قال الشاعر المصري أحمد بخيت عن رحلة الحياة:
وقلتُ
أعلّمُ الفخَّارَ شيئاً
من ذكاءِ الماءْ
وأُوقظُ
غفلةَ الأشياءِ
كي تتكلّمَ الأشياءْ
لعلَّ زجاجةَ المصباحِ
تحفظُ
حكمةَ الأضواءْ