بورتريه:العرائسي حسان المري: عرائسي الغاضبة صديقة للبيئة وصرخة ضد التلوّث

يحلّق بخياله بعيدا يلاعب عرائسه ويتفنن في الانسجام معها ينحت على خشب النخيل ويحوّله الى عروسة ثائرة وغاضبة

تشبه ملامح وجه صانعها ويحمّلها قضايا بلده وانسانيته، حسان المري يتحرك بسرعة وشغف بين الطلبة، يشاركهم فرحة الانجاز واللمسات الاخيرة لتكون العروسة في ابهى صورة، ينصت بحكمة الكبار لما يقوله المتدربين، ويطلب فقط الانصات اكثر الى همس العروسة وكانها روح حيّة حرة وليست قطعة جماد.

في البهو السفلي لمركز الوطني لفن العرائس قدم حسن المري طيلة اسبوع ورشة "روح النخلة" لطلبة التربية والطفولة، وبين اصوات دقات الخشب ورائحة بقايا النخل وتلك الروح الطفولية في المكان التقت "المغرب" عرائسي مختلف اختار "النخلة" وبقاياها مادة لإبداعه.

عرائس المري تعبيرة عن الهوية

حسان المري اصيل ولاية قابس خريج المعهد العالي للفن المسرحي بتونس الواحة دفعة الاولى فن العرائس، تكونا على مجموعة من التقنيات وكوّننا العديد من الحرفيين وقلة من الاكادميين لان الاكادميين في فن العرائس نادرين هكذا يقدّم الفنان نفسه، فحسان المري بسيط كما الاطفال ومثقف مرهف الحسّ، له فلسفته الخاصة في التعامل مع فن الماريونات.
بالعودة الى البدايات يقول المري اثناء التكوين تعرّفت على العديد من العرائس الغربية ووجدت انها ليست العروسة التونسية، ليست المنجز الذي اريد وكان قربي لبيئتي جعلني افكر في عروسة تشبهني، فكانت النخلة ملاذي وعلاقتي بها قديمة جدا، ربما منذ الطفولة او حتى قبل التكوين، فالنخلة جزء من ذاكرة ابناء قابس والواحة لصيقة لفكرة الامتداد والشموخ.
وبعد التخرج تمكنت من تقنيات الصنع وشاركت في اعمال مع المركز الوطني لفن العرائس مع الراحل الاسعد المحواشي، وفي مراكز الفنون الركحية على غرار تجربتي مع الاستاذ علي اليحياوي في مسرحية "راعي الصحراء" تقنيات التحريك والصنع أعرفها وكنت اشعر دائما ان شيء ينقصني، وما ينقصني عروسة تشبه روحي وبيئتي.
ينكب على قطعة الخشب يلامسها برقة المحبّ، يحفر فوقها بليونة وكأنه يكتب على ورقة بيضاء، بعد ساعات تتشكل ملامح الدمية، العينين والفم والشعر جميعها تنحت بهدوء وصبر، ينتشي بذاك الغبار المميز، رائحة بقايا النخلة مختلف عن رائحة خشب اخر وعن علاقته بالعروسة يبوح العاشق لفنّه "ابحث عن ماريونات بيئية، ماريونات ابنة النخلة هي ما تعبر عن مشاعري كعرائسي باحث، اشعر انني لم اصل بعد لكلمة عرائسي لانها مبحث كبير، ولكنني مصرّ على التعمّق في اسرار النخلة، ابحث في البيئة تحديدا بيئتي ومحيطي ابحث في "الكرناف" و"الجريدة" وبقايا النخلة، لتكون وسيلتي للتعبير".
حسان المري عرائسي تونسي الهوية والانتماء يؤمن ان فنّ العرائس وجد ليكون صوتا لمن لا صوت لهم، فالماريونات ليست جامدة بل تتناص مع روح صانعها والمري يرسم ملامح دمية صديقة للبيئة من خشب النخيل بتعبيرة فنية اخرى مشحونة بنداء استغاثة لانقاذ واحة قابس من العطش بسبب المجمع الكيمياوي الجاثم على جمال الواحة منذ اعوام، فالعروسة تعبر عن الوجيعة، وجيعة واحة مهددة بالاندثار تعد الاجمل لانها تجمع البحر والجبل والنخل.
من التشوه ولدت اجمل العرائس الغاضبة

يستمتع النحات بإطالة النظر لقطعة الكرناف بين يديه قبل ان يبثها من روحه وأفكاره، التعامل مع بقايا النخيل لم يكن بالأمر الهيّن كما ان النخلة اعطت للعرائسي مساحة اكبر ليحلم عنها يقول " اردت صناعة عروسة تعيش أكثر، حين اقتربت للنخلة وتأملتها جيدا وجدت انها تعيش كثيرا، اكثر من الصبار واثناء البحث استعملت ماء البحر لإخراج السوس من بقايا النخلة واستعملت زيوت صبايغ ولازلت اواصل البحث لتكون هذه الدمية مميزة لها خصوصياتها وتعيش اكثر وقت".
يصنع عرائس من محيطه، يستنطق بيئته ويغوص كثيرا في تفاصيل واقعه، العرائس هوسه وهاجسه اللطيف حدّ معاملة الماريونات كطفل وليد يستحق الكثير من الانتباه اثناء تحريكها، عرائسه روح وانتماء للأرض والوطن فهو يبحث عن الهوية عبر البحث الفنين فالبقايا جزء روح النخلة، هويتي، روح طفولتي وذاكرتي، الفنان ابن بيئته وانا ابن بيئة احبت النخلة لذلك احوّلها دوما عروسة جميلة "شبابة" ببصمتي الخاصة" كما يتحدث الفنان الشغوف عن تفاصيل عرائسه.
من الذاكرة تنبثق العلاقة الاولى بين الفنان وبيئته، من واحة طبلبو كان اللقاء الاول والعشق اللامنتهى ومع تعلّم التقنيات والتعرّف على دور العروسة في بثّ رسائل بيئية انطلقت الرحلة، واصبحت عرائس حسان المري صوتا لقابس وصرخة ضدّ التلوث ومن محليته وصل المري الى العالمية اذ انجز ثلاث اعمال انطلاقا من خشب النخيل ضمن برنامج "مكوني القادة" الذي تنظمه مؤسسة ربع قرن بامارة الشارقة دولة الامارات العربية المتحدة فالخصوصية توصل العرائسي الى البعيد فقط متى أمن هو بذلك.
علاقة المري ببقايا النخيل مختلفة يرى تلك البقايا مادة للإلهام والابداع، يتحدث عن بداياته مع هذا الفن فيقول "الامر كان صعبا في المرات الاولى، بدات انحت بوسائل بدائية، اتلمس القشرة، المس خشونتها ولينها احيانا قد يسيل الدم وتتشقق اليدين لكن النتيجة كانت مبهرة لانها عملية انصهار الروح في الروح، روحي الانسانة في روح النخلة، وها انني بعد اعوام صارت الكرنافة لينة وكانها قطعة قماش اشكلها كما اشاء.
عرائسه غاضبة ملامحها واضحة،اغلبها رؤوس دون اجسام، تحافظ على لون الخشب الاصلي دون اضافات، الوجوه حفر فوقها ابتسامات معكوسة، عن عرائسه الغاضبة يقول المري "عرائسي حادة الملامح لأنها مبنية على التشويه ببعديه المحلي والعالمين محليا عرائسي صوت مدينتي وغضبها يرمز الى التشويه الذي تعاني منه البيئة وعالميا تحيل الى التشويه الموجود في لعالم من حروب وانتهاك لانسانية الانسان والبيئة ايضا، فالعرائس تعبيرة صادقة محمّلة بوجيعة الانسان في هذا الكون، لذلك عرائسي ولدت غاضبة وحزينة أحيانا هي انعكاس لذاتي احيانا في مرآتي.

الفنان ابن بيئته وصوتها

الفنان صوت مجتمه وبيئته، الفنان له فلسفته الابداعية الخاصة القريبة من الجميع، العرائس عالم مغر بالبحث ومزيد القراءة لاستكشاف عوالم وجماليات ساحرة، وحسان المري عرائس يؤمن بقيمة البحث والدور الحقيقي للفنان في بيئته ومكانه، المري يدافع عن ذاكرته وذاكرة اجداده بعرائسه فجميعها تنطلق من مواد اساسية هي "الجريدة" "الشغلافة" "العرجون" و"السباط" وهي مبحث فني كامل يرمز الى مكونات النخلة.
كما اختار الفنان لعرائسه اسماء من تمر النخيل اساسا فجاءت دمى "عقيوة" و"السميطي" و"الكركبّي" "بوحطّم" و"الترشتي" اسماء غريبة لكنها من موروثنا، هؤلاء الاسماء لنخلات قائمات الذات يقدمون لنا تمر لذيذ نصنع منه "الشداخ" (يوضع لتمر داخل الزير والزيت ويغلق الزير ليفتح بعد سنوات) كما حدثنا المري.
ويضيف العرائسي المتفنن في التلاعب بالأسماء والباحث في هوية مكانه، اسماء العرائس ايضا تعبيرة عن الذاكرة المحلية لذلك صنعت "بودليف" هي من الخرافة الشعبية تشبه عروسة "الشوالق" التي توضع في الزرع لطرد الطيور واخافتها، اخرجته من جموده وحولته الى ماريونات محمّل بالحكايات الشعبية فكل الاسماء من الطبيعة مادامت الماريونات من النخلة لذلك اخترت ان تكون الاسماء ايضا من النخلة هي اقرب للبيئة، فعرائس المري واسمائها جزء من ذاكرته وتعبيرة فنية صادقة تنتصر للبيئة ولواحة قابس الشامخة منذ الازل.

 

 

المشاركة في هذا المقال

Leave a comment

Make sure you enter the (*) required information where indicated. HTML code is not allowed.

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115