بعد تسجيل نتائج الدورة الأولى التي أعطت تقدما ملموسا للتجمع الوطني (اليمين المتطرف) على حساب الجبهة الشعبية الجديدة (اليسار) وحركة "معا من أجل الجمهورية" (الأغلبية الوسطية الحاكمة). ويتمحور الرهان في استقطاب سياسي متجدد، حسب تصريحات قادة المعارضة اليسارية والأغلبية الحاكمة، حول "منع اليمين المتطرف من الحصول على أغلبية مطلقة" تمكنه من حكم البلاد والتحكم في مقاليد السلطة.
رهان صعب على اليسار و"شركائه" الجدد في السلطة إذا ما اعتبرنا الانشقاقات الحاصلة في شأن "الجبهة الجمهورية" المنشودة ضد المتطرفين بين فصائل اليسار من جهة ومكونات الأحزاب التي تشكل التجمع الرئاسي. من ناحية أخرى تشير الأرقام المسجلة يوم 30 جوان في الدورة الأولى إلى تقدم التجمع الوطني المتطرف (297 مرشحا) على حساب الجبهة الشعبية الجديدة (159 مرشحا) وتجمع "معا من أجل الجمهورية" (70 مرشحا). أما حزب الجمهوريين، من غير الذين التحقوا بحزب مارين لوبان، فقد حصلوا على 20 مرشحا إضافة إلى مجموعة مشتتة من مرشحين يمثلون الجهات وبعض فصائل اليمين واليسار والمستقلين. هذه تركيبة الدورة الثانية التي لا يتمتع فيها، على ما هي علية، اليسار والوسط واليمين الجمهوري بأغلبية تمكنهم من التحكم في الجمعية العامة (الغرفة الأولى في البرلمان) التي يعطيها الدستور صلاحيات واسعة، إضافة إلى سن القوانين، في الموافقة على تشكيل الحكومة والتصويت على برنامجها النيابي.
لكن في صورة حقق التجمع الوطني نفس التقدم في الدورة الثانية الذي حققه في الدورة الأولى فسوف يحصل على أغلبية مطلقة (289 مقعدا على الأقل). أما في الحالة الثانية، فإن نجحت كل الفصائل في تحقيق تصويت جماعي وكامل حول المرشحين "الجمهوريين" فإمكانية افشال مشروع اليمين المتطرف في الحصول على أغلبية يصبح واردا. وهو ما جعل كل زعماء الأحزاب من اليسار والوسط الإعلان على تشكيل "جبهة جمهورية" لصد الخطر اليميني المتطرف. وهي ليست أول مرة تتشكل فيها مثل هذه التجمعات. فقد سبق لأحزاب اليمين واليسار أن طالبت الناخبين في عديد المناسبات منذ بداية القرن الواحد والعشرين بالاتحاد ضد اليمين المتطرف في الانتخابات التشريعية والبلدية والإدارية.
انشقاقات جسيمة
هذه المرة تجد "الجبهة الجمهورية" نفسها أمام عوائق مفصلية. فبالرغم من قبول عدد كبير من المرشحين (216) الانسحاب من السباق لفائدة المرشح الجمهوري الذي له أكثر حض في الفوز، أعلنت بعض الفصائل والشخصيات السياسية التي تنتمي للجبهة الجمهورية التصويت لفائدة عدد من مرشحي حزب "فرنسا الأبية" الذي يقوده جون لوك ميلونشون. ويأتي في مقدمتها الوزير الأول الأسبق إدوار فيليب والوزراء برونو لومار وجيرالد درمانان الذين التحق بهم الوزير الأول غابريال أتال. وهو ما سوف يترجم حتميا بإعطاء اليمين المتطرف مزيدا من الحظوظ في زيادة عدد النواب في صفوفه.
من ناحية أخرى، أعلن 30 مرشحا من الجبهة الجمهورية عن عدم الانسحاب من السباق لفائدة اليسار الراديكالي. وهو ما يحقق عمليا 30 مقعدا إضافيا للتجمع الوطني المتطرف الذي سجل في الدورة الأولى انتخاب 39 نائبا مقابل 31 للشق الجمهوري. ولا يعرف في هذه الظروف موقف الناخبين الذين عادة ما يصوتون حسب قناعاتهم الشخصية التي تتغير مع مرور الزمن وتقييم السياسات الحكومية ولا تتجانس مع موقف الزعماء في كل الحالات. كل هذه الفرضيات تخدم مباشرة اليمين المتطرف.
صعود تاريخي متواصل
ما سجلته صناديق الاقتراع يوم 30 جوان في فرنسا هو بدون منازع "تاريخي" حيث حقق اليمين المتطرف قرابة ضعف ما حصل عليه في انتخابات 2022. فمن 6،5 مليون ناخب منذ عامين حصل الحزب على 11،5 مليون صوت. وهو أمر غير مسبوق في تاريخ الانتخابات التشريعية في البلاد. تغيير "ذهنية" الناخب الفرنسي وانتقاله لدعم حزب مارين لوبان العنصري هو نتيجة للإخفاقات الحقيقية لحكومات إيمانويل ماكرون في الأزمات المتتالية التي عاشتها مع انتفاضة "القبعات الحمر" و "السترات الصفراء" وأزمة جائحة كورونا وانتفاضة الشارع الفرنسي ضد قانون التقاعد الجديد وقانون الهجرة وتحركات المزارعين الأخيرة وانحياز حكومات ماكرون للأثرياء على حساب الطبقة والوسطى و الفقراء الذي وصل عددهم، حسب الإحصائيات الرسمية، إلى 14 مليون فرنسي.
فتحول الرأي العام، شيئا فشيئا على مرور الاستحقاقات الانتخابية، من مساند للأحزاب التقليدية إلى معارض لها بسبب فقدان الثقة في طبقة السياسيين ونشر ثقافة الشعبوية والمؤامرة مع انخفاض مستوى الوعي السياسي عموما وتقلص عدد الناشطين السياسيين في صفوف الأحزاب التقليدية. ولم تبق أمام فصائل عديدة من الناخبين سوى "معاقبة" الحكام على ما اقترفوه. وهي الثقافة السياسية الرائجة منذ مدة والتي تحرك كل مناطق البلاد بسبب عدم اكتراث الحكومات المتعاقبة بما يعانيه المواطنون من تفقير حقيقي وحرمان وعدم القدرة على العيش الكريم. وهو ما يفسر دخول "أراضي ما وراء البحار" مثل جزيرة "لا ريونيون" وكاليدونيا الجديدة في حالة من الحرب الأهلية موجهة لا ضد اليمين المتطرف، بل ضد الحكومات التقليدية.
سيناريوهات اليوم الآخر
سوف يستفيق الشارع الفرنسي يوم الإثنين على احتمالين أولهما، بمثابة زلزال في صلب أوروبا، فوز التجمع الوطني المتطرف بأغلبية في البرلمان تمكنه من حكم البلاد على غرار ما حصل في الجارة إيطاليا وفي المجر وفي هولندا هذا الأسبوع. وهو أمر سوف يدخل فرنسا وأوروبا في حالة استنفار لا يستثني كبار مسؤولي وزارة الداخلية أعمال عنف بين الفصائل الراديكالية المتواجدة في شقي المشهد. أما السيناريو الثاني الذي لن يتمتع فيه اليمين المتطرف بأغلبية واضحة فسوف يدخل فرنسا في حالة من الضبابية السياسية. مارين لوبان أعلنت بتكهناتها بالحصول على 270 قعدا على الأقل وبنيتها البحث مع ما تبقى من اليمين الجمهوري ومن المستقلين ومن النواب الجدد تشكيل أغلبية. لكن في المقابل لن يكون للشق الجمهوري العدد الكافي لتشكيل أغلبية. وهو ما يفتح أمام الرئيس ماكرون، في حالة فشل جوردان برديلا ومارين لوبان الحصول على أغلبية، الشروع في تكوين "حكومة تكنوقراطية" سنادها تجمع غير أغلبي في البرلمان. وعلى هشاشة هذا المقترح بسبب عدم بلورة أغلبية من الناخبين يصوتون لمشاريع القوانين لتلك الحكومة المفترضة فسوف تدخل البلاد نفقا مظلما لا يعرف أحد إلى أي ميناء ترسي فيه السياسة الفرنسية للدولة لأنه يمنع دستوريا على الرئيس، الذي قرر حل البرلمان، أن يحل البرلمان مجددا مدة عام كامل من الولاية الانتخابية. أما مقترح "أغلبية وفاقية" بين حزب ماكرون والجبهة الشعبية الجديدة التي تقدم بها قصر الإليزيه ورئيس الحكومة فلن تجد أي مشارك من أحزاب اليسار لما لهم من عداء لسياسة ماكرون تصل إلى كراهية شخصية في بعض الحالات. يوم 10 جويلية سوف يكون بدون شك رهان جسيم امام مصير الجمهورية الخامسة.