وإن نجحت الأحزاب اليمينية التقليدية في الحفاظ على تقدمها فإن الناخبين في البلدان الأوروبية الكبرى أعطوا إنذارا حادا للحكومات التي سنت سياسات ضد ما يترقبه الرأي العام.
الانتخابات التي دارت في 27 دولة تهدف إلى انتخاب 720 نائبا جديدا من قبل 360 مليون ناخبا. وأدت هذه النتائج إلى زلزال سياسي في فرنسا حيث ترأس التجمع الوطني بقيادة جوردان برديلاالمشهد بحصوله على 31،47% أمام حزب "النهضة" الحاكم الذي جاء في المرتبة الثانية بنسبة 14،6%. وهو ما جعل الرئيس إيمانويل ماكرون يقرر حل الجمعية العامة واستدعاء الناخبين يوم 30 جوان لانتخابات سابقة لأوانها تخشى جل التنظيمات السياسية، حسب التقديرات المتداولة، أن تسفر إلى حصول حزب مارين لوبان على أغلبية مريحة في البرلمان القادم.
اقتراع ضد الحكومات
على المستوى الأوروبي، سجلت البلدان الكبرى مثل فرنسا وألمانيا واسبانيا هزيمة الحكومات. إضافة إلى فرنسا، خسر الانتخابات الحزب الاشتراكي الألماني الذي يحكم البلاد والذي جاء في المرتبة الثالثة بعد حزب "أ أف دي" المتطرف الذي غنم 15،6% من الأصوات في حين عزز المحافظون موقعهم بالاستيلاء على 30،35 من أصوات الناخبين. أما في إسبانيا فتقدم الحزب الشعبي المحافظ بنسبة 32،4% على الحزب الاشتراكي الحاكم الذي جاء في المرتبة الثانية بنسبة 30،2%. نفس الخسائر سجلتها حكومات النمسا، والبرتغال، وجمهورية التشيك، وسلوفاكيا.
الثنائي الفرنسي الألماني الذي يقود القاطرة الأوروبية، والذي أظهر في الأشهر الماضية، اختلافات عدة في المواقف المتعلقة بدعم أوكرانيا في حربها ضد روسيا، يمر بفترة لم يشهدها من قبل. وسوف تؤثر التوازنات الجديدة داخليا وعلى المستوى الأوروبي في صناعة القرار الوطني والمشترك. وإن بادر ماكرون بالرجوع إلى الناخبين فلم يصدر أي تعليق من المستشار ألاف شولتز بالرغم من هزيمته وتقهقر حزبه تحت قيادته وراء الحزب اليميني المتطرف المتهم بتعاطفه مع الفكر النازي.
اليمين المحافظ في تقدم
في حين كانت وسائل الإعلام الأوروبية ومؤسسات سبر الآراء تركز على صعود وتغول اليمين المتطرف المفترض في الانتخابات، حققت أحزاب اليمين التقليدي تقدما في 14 بلدا وحصلت على 181 مقعدا في البرلمان الجديد بزيادة 5 مقاعد بالنسبة لانتخابات عام 2019. اما الكتل البرلمانية الأخرى التي تشكل الأغلبية في البرلمان فقد خسرت بعض المقاعد. ثاني كتلة في البرلمان للاشتراكيين والديمقراطيين خسرت 4 مقاعد فقط وحصلت على 135 من جملة 720. كتلة "التجديد" التي يشارك فيها حزب "النهضة" الفرنسي بزعامة ماكرون خسر 20 مقعدا ولم يحصل الا على 82 مقعدا. هذه الكتل الثلاثة التي شكلت الأغلبية السابقة لا تزال تتمتع بقدرتها على إدارة الشأن السياسي في البرلمان الجديد إذا ما تمت إعادة التوافق الحاصل في الولاية المنتهية.
الخاسر الأكبر في هذه الانتخابات هم "الخضر" الذين لم يتمكنوا من إعادة نجاحهم في عام 2019. بل خسرت أحزاب الخضر على خلافاتها في جل البلدان الأوروبية بسبب فقدان الوضوح في الرؤية بعد أن عمدت الأحزاب الأخرى الاشتراكية والمحافظة على ادراج مسألة التحول الإيكولوجي في برامجها السياسية والانتخابية. من جهة أخرى، لم تتمكن أحزاب الخضر في ألمانيا وفرنسا وفي البلدان الصغيرة، وخاصة من أوروبا الشرقية، من بلورة خطاب متجدد يجلب الناخبين ويستقطب النقاشات السياسية.
اليمين الراديكالي والمتطرف يحتل المشهد
صعود التجمع الوطني في فرنسا للمرتبة الأولى، بعد فوز جورجيا ميلوني في الانتخابات التشريعية عام 2022، شكل نقطة تحول في هذه الانتخابات بسبب موقع فرنسا في الإتحاد الأوروبي. وإن اعتبر الإعلام الفرنسي أنه مثابة "زلزال" في البلاد، فإن هذه النتيجة تدخل في منطق الصعود المذهل للأحزاب اليمينية الراديكالية، والمتطرفة، والشعبوية في 18 بلدا من الإتحاد. هذا التواجد لن يغير في الحقيقة من موازين القوى داخل البرلمان الأوروبي لأن الكتلتين الراديكاليتين، كتلة "المحافظين" (71 مقعدا) وكتلة "الهوية والديمقراطية" (62 مقعدا) لم تحصد سوى 18% من المقاعد (133 في الجملة)، عدد لا يمكنها من قيادة الأمور في البرلمان. لكن سوف يكون لها تواجد في كل اللجان وفي مسالك أخذ القار.
الأمر المهم الذي اثبتته هذه الانتخابات هو أن الأحزاب اليمينية الراديكالية أو المتطرفة التي وصلت إلى السلطة لم تشهد تقهقرا. مثال ذلك مواصلة حزب فيكتور أوربان في المجر في تصدر الموقف بنسبة 43،76% وتحسين نتائج حزب "الإخوة الإيطاليين" تحت زعامة جيورجيا ميلوني (من 6% عام 2019 إلى 28،8%) ووصول حزب الحرية الهولندي (17،7%)، الذي يشارك في حكومة ائتلافية، إلى مرتبة ثاني تشكيلة سياسية في البلاد. كل هذه المعطيات تدل على تحول عميق في المشهد الأوروبي يفتح الباب أمام مرحلة متقلبة قادمة في ظل الحرب على مشارف الحدود المشتركة.
انتشار الفكر الشعبوي والراديكالي في جل البلدان الأوروبية ليس بالأمر الجديد. لكن نسق التحولات بسبب مواصلة الحكومات انتهاج نظام العولمة وبعد المسائل السياسية عن مشاغل الناخبين رجح تدريجيا بروز ثم تفاقم الأطروحات الشعبوية التي استغلتها الأحزاب اليمينية الراديكالية لفرض واقع سياسي جديد لم يصل إلى حد الآن إلى مستوى الفوز بالأغلبية. لكن خطورة هذه الأحزاب القومية والشعبوية يكمن، في المقام الأول، في خطابها المعادي للمشروع الأوروبي. ومن المفارقات السياسية أن هذا الخطاب هو الذي يفوز في الانتخابات الأوروبية على حساب الأحزاب التي تدعم تقليديا الاندماج الأوروبي في حين يشكل خطرا على بقاء الإتحاد الأوروبي كأحد ركائز النظام العالمي الجديد.