أوهي باكية بعين واحدة... فالعين الأخرى سرق بصرها الرّش المتوحش وأطفأ نورها سلاح وحشي في واحدة من الأحداث السوداء التي عاشتها تونس خلال العشرية الأخيرة. في شهر نوفمبر 2012، انهال الرش على أجساد أبناء سليانة مستهدفا عيونهم التي كانت تنظر إلى الحياة بأمل فأصبحت تعاني من ألم نفسي عصي عن التداوي... وقد فقدت نعمة البصر إلى الأبد !
في فيلمها الوثائقي "كأننا لم نكن" توثق المخرجة والصحفية شادية خذير لصور مؤلمة عن وجوه مثقوبة وعيون مفقوءة وأحلام موؤدة تبدو وكأنها لوحات سريالية عن قبح الأسلحة والحروب تشبه لوحات "فرانثيسكو ڤويا" أو "هيرونيموس بوش"أو "بابلو بيكاسو"... ولكنها للأسف حقيقة مُرّة لا تزال سليانة تتجرّع مرارتها إلى اليوم !
بأي ذنب حُرم حمدي البراري وفلاح المنصوري من البصر ومن الحلم؟!
في مثل هذا التوقيت من كل عام ومنذ 11 سنة، يتجدّد موعد سليانة مع جرح نازف لم يندمل منذ أحداث الرش في أواخر شهر نوفمبر 2012. ولأنّ السينما هي سلاح للتوثيق ضد النسيان وضد نسف الحقائق، فقد اختارت شادية خذير في فيلمها الوثائقي "كأننا لم نكن" (تم تقديمه عرضه الأول في سنة 2018) أن تنقل مصير ضحايا الرش في سليانة ما بعد الفاجعة. إلى اليوم لا تزال رسالة الفيلم قائمة وهي التي يطالب فيها الضحايا بالمحاسبة. وحتى بعد سنوات طويلة سيبقى الفيلم وثيقة إدانة وتخليدا لملحمة سليانة المعاصرة.
ينطلق الفيلم بمقدمة موجزة عن سليانة التاريخ والآثار وسحر الطبيعة وهي التي اختارها القائد القرطاجي حنبعل لتكون مركزا لحكمه الإقليمي ثم في تخلص طريف تقع الإشارة إلى سليانة الحاضر التي همشتها منوال التنمية ونمت فيها نسب البطالة والفقر... كان هذا المدخل العام جسرا سينمائيا ولغويا للمرور من العام إلى الخاص، من الموضوعي إلى الذاتي ، من صور سليانة البنارومية إلى داخل الحي . هذا الحي الذي يسكنه "حمدي البراري" و "فلاح المنصوري" ، هما شابان أعدا ليلة 27 نوفمبر 2012 ما عليهما من واجبات مدرسية ... وناما على ناصية الحلم !" لكن الرش كان أقرب إلى عيونهم من الأحلام ! كان فلاح منصوري شايا حالما وطموحا يحلم بالالتحاق بالأكاديمية العسكرية وارتداء الزي العسكري والامتثال إلى مبادئه وانضباطه... ولكن تبخرت كل هذه الأمنيات سدى بسب أحداث الرش في سليانة.
أما حمدي البراري، فكان تلميذا نجيبا ومتفوقا في دراسته يحلم بأن يصل إلى مراتب دراسية عليا في يوم من الأيام ولكن سرق الرش منه البصر ليضيع منه درسه وليتوقف عن تصفح كتبه وليتجمد الحبر في قلمه...لقد أضحى حمدي البراري بلا علم وبلا أمل وبشبه بصر!
11 سنة من المعاناة.... في انتظار المحاسبة
على الضفة الأخرى من القضية أو بالأحرى داخل العائلة الواحدة، تكبر المعاناة ليعيش كل أفراد الأسرة المأساة. لم يكن حمدي البراري وفلاح المنصوري وحدهما الضحيتين بل أمهات حزينات وآباء مقهورين وأشقاء يعانون الشقاء !
تقل كاميرا شادية خذير شهادات مؤثرة لعائلتي "البراري" و"المنصوري" بعد أن انقلبت حياتهما رأسا على عقب بعد أحداث الرش في سليانة. هي لوعة لا يشعر بها إلا من يعيش الفاجعة يوميا ومنذ أكثر من 10 سنوات. لا شك أن كل سنة تمضي من عمر "فلاح" و"حمدي" هي أشد وجعا من طعنة الخنجر في قلوب أمهات وآباء كانوا ينتظرون مستقبلا أجمل لفلذات أكبادهم... أو حتى مجرد عيش حياة طبيعية !
يغوص فيلم "كأننّا لم نكن" في أعماق الشخصيات وينبش في تفاصيل يومياتها حتى يكون وفيّا لانكسارها ولقهرها ولخذلانها... فجاء السرد مؤثرا والحكي موجعا عن مأساة ضحايا الرش في سليانة انطلاقا من نموذج الشابين حمدي البراري وفلاح المنصوري، وقد تتعدد الأسماء والحالات ولكن المصيبة واحدة!
لم تغفل صاحبة "كأننّا لم نكن" عن توثيق أهم التصريحات المثيرة للجدل وللحنق على إثر أحداث الرش في سليانة والتي جاءت على لسان رئيس الحكومة السابق حمادي الجبالي ووزير الداخلية السابق علي العريض ... كما منحت الكلمة للفاعلين في المشهد المحلي آنذاك على غرار كاتب عام الاتحاد الجهوي للشغل الشاذلي الرويسي ووالي سليانة أحمد الزين محجوبي ... تحلت شادية خذير بالموضوعية وبالمصداقية في النبش في الوثائق وفي المعطيات وفي تقرير اللجنة الوطنية المستقلة للتحقيق في أحداث الرش ، وفي الأخذ برأي كل الأطراف المتقابلة...
إنّ كل ما يطلبه اليوم ضحايا الرش في سليانة وعائلتي "المنصوري" و"البراري" هو التحقيق الجدي والحقيقي ومحاسبة المجرمين عسى أن يعود لهم بعض الاعتبار وأن تبرد الجمرة المشتعلة في قلوبهم ولو قليلا !
على إيقاع أغنية "ليام تجري والعمر خسارة" ينتهي الفيلم الوثائقي "كأننّا لم نكن"، كانت نصف ساعة كفيلة بتوثيق فصول لا تزال مفتوحة من مأساة أحداث الرش في سليانة حتى لا يُنسى ضحاياها كأنهم لم يكونوا !