فماذا لو قرر كاتب ما إعادة التاريخ بطريقته؟ ماذا لو أقدم مبدع على تغيير مسارات حكاية وشخصيات كتبت منذ مئات الأعوام؟ ماذا لو تجرأ الفنان على إعادة قراءة التاريخ البشري وإحياء الشخصيات من موتها وإعادة سؤالها عن فترة زمنية ما، وبجنون المبدع كتب بوكثير دومة وقرر أن يحيي "عطيل" ويعطيه فرصة لإعادة ترتيب أوراقه من جديد في مسرحية "عطيل وبعد" إخراج حمادي الوهايبي التي ستمثل تونس في المسابقة الرسمية لمهرجان بغداد الدولي للمسرح من 10 الى 18ديسمبر 2024.
"عطيل وبعد" مسرحية إخراج حمادي الوهايبي وتمثيل مهذب الرميلي ومحمد شوقي خوجة وبهرام علوي ونور الدين الهمامي واباء حملي وفاتن الشوايبي وسامية بوقرة وعزف احمد الماجري و تضمن العمل لوحات كوريغرافية بإمضاء ريان سلام وشيماء ارحاولية بمساهة قيس بولعراس.
عطيل العصر الحديث يعيد كتابة تاريخه
موسيقى حربية تصم الآذان، جو كنائسي يطغى على الفضاء،اضاءة خافتة تقسم الفضاء الى اروقة صغيرة شبه معتمة رواق وحيد هو الأكثر إضاءة به جسدين اثنين يتحادثان همسا ثم يرتفع الصوت، هو المشهد الأخير من مسرحية "عطيل" لشكسبير، القائد العاشق عطيل يخنق زوجته "ديدمونة" بعد أن شكّ في خيانتها، لكن الحكاية تتبعثر وتعاد أوراق اللعبة ويقرر كاتب النص الجديد ان يعود عطيل الى الحياة، يمنحه المجال ليكشف الحقائق ويعيد تغيير مصير بعض الشخصيات، فالشمال لن ينتصر دائما على الجنوب، والأبيض بإرثه الغربي لن يبقى دوما هو عنوان السلطة وكتابة تاريخ أبناء الشرق.
في جو كنائسي تدور أحداث المسرحية تحر الكنيسة باصوات اجراسها لباس رهبانها وصلواتهم التي تكون مسموعة على الخشبة، طاقة من الخشوع تعيشها الشخصيات وكانها في الكنيسة حقا، بوكثير دومة كاتب النص وحمادي الوهايبي مخرج العمل يقرران الانتصار لجنوبهم عبر "عطيل"، فعطيل الفارس والقائد لن ينتحر في العصر الراهن، لن يهرب من ساحة الحبّ بل سيواجه المكائد ويبحث عن الحقائق "لن أجعلكم تشفقون علي، بل سأجعلكم محل الشفقة، لن اقتل ديدمونة" كما يقول مخاطبا الجميع.
"عطيل وبعد" قراءة جديدة للتاريخ الانساني، في مسرحيته جعل شكسبير بطله "عطيل" قادما من الجنوب، فارسا مغوارا وشجاعا أكثر من أبناء الشمال، استقدموه لينجدهم في الحرب وفعل وحقق النصر، لكن سقط صريع العشق واحبّ "ديدمونة" وبسبب المكائد قتلها وقتل نفسه، في النص الاصلي ترك شكسبير بطله محل الشك جعله تورط في جريمة القتل ثم ينهي حياته بعد انتصاراته العسكرية، فكاتب النص الاصلي بنزعته الغربية لم ينتبه لصدق ابن الجنوب ولا شجاعته، لكن الوهايبي ودومة ذهبا ابعد من شكسبير وانتصرا انتصارا كليا لعطيل، فكانت موسيقى أبناء الجنوب تعزف مباشرة على الركح، بعثا بشخصيته إلى الحياة وسكبا فيها ماء الحرية والقوة لتواصل عبثها بالغرب وأفكارهم العنصرية "هل تخافون عبدا اسود بربري" كما يقول "ياغو".
"عطيل وبعد" عمل مسرحي يعيد قراءة التاريخ الاستعماري الغربي، تجربة مسرحية وانسانية ترفض العنصرية وتقدم المصدح لأبناء الجنوب ليعيدوا البوح بقصص الماضي ويكشفون الحقائق المطموسة، فينتصر "عطيل" العصر الراهن لأبناء غزة الصامدة ويدافع عن حكايات أصحاب الأرض ويعيد ترتيب الأوراق من خلال تقنيات لعب الممثل التي أتقنها مهذب الرميلي وكان صادقا وتلقائيا على الخشبة.
ينتصر أبناء الأرض ولو بعد حين
تبحر الموسيقى في عوالم الروح وتكون صدى لضربات القلب ولحظات العشق، الخوف تكتبه الإيقاعات القوية والحب تعبر عنه مقطوعات جميلة ورومنسية، المكان أمكنة فهو الدير مرة ومنزل القائد أخرى والساحات ثالثة وكانت الإضاءة والصور الخلفية على الشاشة هي وسيلة المخرج للتعبير عن المكان وتغيّره وتأثيره على سير أحداث العمل.
وظف المخرج التقنيات السينوغرافية ليجعل فضاء اللعب مليئا بالحياة مع غياب كامل للديكور فوحده جسد الممثل والإضاءة ستكون سبيله لاستنطاق الفضاء، من خلال تقنيات السينوغرافيا يغوص الوهايبي في اختلافات الشخصيات ويقدم للجمهور الاختلاف بين الجنوب والشمال، والصراعات المتكررة بين ابناء الشمال انفسهم في علاقة مع القائد "عطيل".
في العمل يلعب الممثل الدور الاكبر لايصال شفرات العمل في المسرحية ابدعت الممثلة فتن الشوايبي في شخصية "ديدمونة" وجع الشخصية الخائفة طوال العرض من الموت مرة اخرى وطريقتها لايصال بواطن الشخصية والتماهي معها اتقنته الممثلة المتمكنة من ادوات اللعب والقادرة على اقناع المتلقي.
الثنائي شوقي خوجة ونور الدين الهمامي كل قدم شخصية مختلفة عن السابق وسبق ان اجتمعا معا لكن في "عطيل وبعد" كان الأداء مختلفا يكشف قدرتهما على التلون والتناص مع الشخصية الجديدة ايا كانت صعوبتها ولياغو سحره مع شوقي خوجة، ، كما تميزت اباء حمل في شخصية الراهبة، انتقلت الممثلة بسلاسة بين شخصتين اولى عاشقة والثانية راهبة ملتزمة ولعبت الممثلة عى تلك المساحة الانسانية الرابطة بين لوجعين والشخصيتين، فالممثل بزاده المعرفي والادائي مطية لتفكيك عطيل العصر الحديث.
في المسرحية يستنبط الوهايبي شخصية جديدة هي "الأم" رمز الذاكرة والتاريخ والهوية الافريقية، نراها بلباسها السماوي الجديد وشموخها تحاور عقل ابنها وتخبره ان يتريث "فنحن لا نقتل النساء" والام في القراءة الحديثة للعمل مقارعة للغرب وتأكيد على قوة ذاكرة أبناء الأرض وحرصهم على العودة الى الجذور مهما طالت سنوات الاغتراب الفكري والجسدي تماما كما حدث لعطيل وهو يرقص على ايقاعات افريقية تنساب من داخل روحه ليتردد صداها في المكان.
سينتصر أبناء الارض ولو بعد حين، ينتصر ابن الجنوب على الارث الاستعماري والثقافي الغربي ولو بعد عودته من الموت هكذا فعل عطيل القائد، بعث من موته وواجه جميع اعدائه وكشف دسائس "ياغو" العنصري و"كاسيو" الباحث عن السلطة، قرر ان "يتريث" ويبحث عن الحقيقة من مسارات اخرى، فانتصر باسم الحبّ لثقافة كاملة.
"عطيل وبعد" مقارعة للارث الغربي بالعقل والفكر وتأكيد على قدرة ابن الارض وصاحبها على النجاة فجعل كاتب النص الجديد "ديدمونة" حاملا، وفي حملها بذرة حبّ جديدة جنوبية الروح ستولد وتحمل هي الاخرى نضالاتها لتنتصر ولو بعد حين.