ويصنع الممثل عوالمه الخاصة جدا ليحلم ويحلّق في رحاب فكر حرّ ومختلف، المسرح مساحة للنقد وعلى الخشبة لا وجود للممنوع وكل المواضيع والافكار تطرح بجراة وتلقائية وصدق الممثل ومهاراته يصنع جمالية فرجوية وفكرية تشدّ المتلقي وتدفعه لاستعمال العقل وطرح السؤال، فالمسرح فكرة والافكار لا تمةت في هذا السياق يندرج عمل "البخارة" اخراج صادق الطرابلسي.
مسرحية تكشف بؤس التلوث وتاثيره على الانسانن نص الياس الرابحي ودراماتورجيا ومساعدة اخراج تماضر الزرلي واداء مريم بن حسن ورمزي عزيز وعلي بن سعيد وبلال سلاطنية ومكي بليغ وكوريغرافيا لهدى الرياحي وملابس نوال الاسود وتصميم موسيقى وضاح العوني وتقني اضاءة محمد عربي حشاد ومابينغ حمزة العبيدي وتقني فيديو نزار صالح واخراج فيديو محمد الحرقاني والعمل من انتاج مسرح اوبرا تونس.
السينوغرافيا تصنع جمالية الفرجة وتحفّز طرح السؤال
الموسيقى الصاخبة ستكون دليل المتفرج للدخول الى عوالم المسرحية، الموسيقى ستحفّز حواسه للعمل، قبل ان ينطق الممثلين خمستهم بجملة "ويني الشمس" اول كلمات منطوقة في نص المسرحية وعليها ستبنى بقية الاحداث.
يقسم الركح الى نصفين، جزء امامي خاو وعار من الديكور والجزء الابعد يقسم الى خمسة اروقة، نصف مفتوحة تماما كالحقائق، خلف كل باب شخصية ولكل شخصية علاماتها وحركاتها المختلفة عن الاخرى تماما كاختلاف الناس، اربع شخصيات رجالية وشخصية نسائية، عائلة واحدة في مجموعة ضيقة تحاول التنفّس.
الاضاءة خافتة اغلب ملامح الوجه شبه غائبة، فالمسرحية ستنقل للجمهور وجع الاختناق ومخاطر التلوّث وكيف يسرق الانسان القليل من الاوكسيجين في مدينة سمائها ملوثة ومائها قاتل وابنائها يسقطون بالسرطان كاوراق الخريف.
في مسرحية "البخارة" ستكون الاضاءة عنصر اساسي في تصميم فضاء اللعب وكذلك في التاثير على مزاج الجمهور، وتنتج انواعها المختلفة امزجة مختلفة وتعتمد تأثيرات الإضاءة والحالة المزاجية على مجموعة من العوامل ، بما في ذلك اللون والملمس والحركة والشدة وجميعها اساعدت على خلق مزاج المتفرج والتاثير فيه، فالاضاءة الصفراء المتجهة نحو الضبابية تحفّز الاحساس بالاختناق وتشعر المتلقي انه يعيش فعلا في مكان ينعدم به الهواء النقي، الاضاءة حين تصبح حمراء تزيد احساس الغضب والرغبة في الثورة على كامل المنظومة تماما كما فعلت الشخصية اتي يجسدها الممثل المتمرد علي بن سعيد، فالاضاءة في المسرحية ستعكس الاحساس الداخلي للمتلقي وتحمله الى عوالم نفسية ومزاجية تمكنه من استقراء العمل.
بين الاضاءة والموسيقى وتقنيات الفيديو والمابينغ تصنع السينوغرافيا لجمالية فرجوية تنسجم مع ابداعات الممثلين على الركح وتساهم في توجيه المتلقي وافكاره نحو رفض فكرة التلوث والدفاع عن حق الانسان في هواء نظيف وبيئة سليمة.
بين الحقيقة والخيال يبدع الممثل في ملامسة وجع "قابس" وابنائها
المسرح مساحة للحلم والحقيقة وبينهما تكون الرحلة، بين عالمين واحد متخيل وآخر موجود يلعب الممثلين بصدق وحرفية، بين مدينة متخيلة وأخرى حقيقية تكون الاحداث، مد وجزر على الركح بين الشخصيات وكيفية استغلال مساحة اللعب لكل ممثل، شخصيات موجودة وأخرى متخحيلة لكنها تساهم في الحدث هكذا اراد الصادق الطرابسلي عمله الاول موجعا، خانقا ومحفزا للسؤال.
اثناء الفرجة سيسكنك السؤال ماذا لو وجدت في مدينة هوائها ملوّث؟ ماذا لو سرق المرض ذكرياتي ومستقبلي وماتت الروح قبل ان يموت الجسد؟ بجؤراة في النص وشاعرية موجعة في الحوار يستهدف المكخرج قلب المتلقي وفكره معا ليجعله شريكا في اللعبة المسرحية والرغبة في التاثير والتغيير.
الفضاء المتخيل هو فضاء الاحداث: قرية ما، كان يعيش اهلها على فلاحتهم، يلامسون الشمس ويستمتعون بموج البحر وزرقة لونه واتساع سمائه، ياتي مستثمر يدعي تشغيل اليد العاملة وبفعل المواد الصناعية والكيميائية تحجب السماء ويتغير لونها، يتراجع امتداد البحر وتتحول زرقته الى سواد مزعج وتصبح المدينة تحت ظلال المرض والهواء الملوّث، هكذا تخيل كاتب النص فضاءه المسرحي.
اما الحقيقة فالمدينة المختنقة توجد فعلا، هي جنة تونس كما كانت تسمى قبل اربعين عاما، قابس الساحرة التي اثقل كاهلها بالغازات السامة وانتشر فيها مرض "السرطان" وحزن بحرها وتلوث هواءها ووسط العمل يتأثر الممثل رمزي عزيز ويطلب بلطف من الممثلة مريم بن حسن الصمت ويخرج عن النص بالقول "علاش تحيرلي في مواجعي، نتذركرها قابس كيفاش كانت، قابس كانت جنّة وعشت منهم 10اعوام في جنتنا قبل ان تتحول الى مدينة موبوءة بالغازالت" فعزيز ابن مدينة قابس ويعرف المدينة قبل ان انشاء المجمع الكيمياوي.
المدينة المتخيلة ينتشرفيها المرض، الهواء ملوث والثروة البحرية تراجعت كذلك قابس اذ تلفظ شواطئها باستمرار أسماكاً وسلاحف بحرية وحيوانات نافقة جراء التلوث، مما دفع الأهالي إلى دق ناقوس الخطر تجاه ما وصفوه بـ "اختلال التنوع البيولوجي" الذي كان إلى أمد غير بعيد يميز المدينة عن غيرها،ويعاني أهالي قابس منذ 40 عاما من مشاكل التلوث الناتج عن تسرب الغازات السامة للوحدات الكيميائية بالمجمع الكيميائي (حكومي تأسس سنة 1972)، إضافة إلى وجود إفرازات لمادة "الفوسفوجبس" التي يتم ضخها مباشرة في البحر المتوسط ومسرحية "البخارة" لامست هذا الموضوع وطرحه الممثلين بجرأة على خشبة الركح، قابس الموجوعة نجدها على الركح وحاول الممثلين ملامسة حقيقة ابنائها والمهم وايصاله الى الجمهور، لتدق المسرحية ناقوز الخطر علّ المعنيين ينتبهون لسقوط مدينة باكملها في هاوية التلوث والمرض والنهاية.
"البخارة" مسرحية تضع الوضع البيئي على طاولة التشريح المسرحي، تذكر جمهور الفن الرابع بخطر التلوث على المنظومة البيئية والانسانية، اجساد الممثلين ستكون التعبيرة الاصدق عن الوجع والخوف، اجسادهم وحركاتهم تصبح مطية لتعرية خطورة التلوث، وبتقنيات مسرحية وسينمائية يدخل الممثلين على مساحة النقد ويدفعون المتفرج ليكون جزء من لعبتهم وينتصر لافكارهم وثورتهم.
في المسرحية يكون "نضال" الشخصية الثورية، متعلم يريد حرق المصنع بعد فشل المفاوضات مع المشرفين، وينقل العمل العلاقة الافقية بين صاحب راس المال واصحاب المبادئ، صراع قديم ومتواصل بين الباحث عن الاستثراء والحالم بحقوق وعدالة للجميع، الاول تدعمه السلطة والمنظومات والثاني يجد نفسه عاريا وحيدا فقط قلبه وافكاره سلاحه، وبين قوتين غير متعادلتين تصبح اللعبة اكثر وجعا وكل طرف يبحث عن احقيته ويترك علي بن سعيد البارع في الاداء الفرصة للجمهور ليحتكم الى ضميره وينصت لصوته الداخلي لانقاذ قابس وكل مكان يعاني اهله من التلوث وكدورة الحياة تنتهي المسرحية بنفس المشهد الشخصيات مخنوقة تبحث عن الهواء ونور الشمس علّه يطهّر الروح ممافعلته البخارة لاعوام؟.
في المسرحية نجحت الشخصيات في اعلان ثورتها، اقلقت الاقلية الاغلبية مالكة المال ونجح الفرد في تغيير مصير المجموعة، فهل ستتحرر قابس من التلوث الذي استعمرها؟ وهل سيعود لبحر المدينة زرقته الجميلة ويتراجع وباء التلوث الذي اثقل اهل المدينة وأجهض احلام العديد من ابنائها؟