بعضها مكتوب والبعض الآخر فارغ وحقيبة ديبلوماسية تحتوي أدوات بسيطة تخرجها الممثلة عند الضرورة، يبدأ العرض المونودرامي "غزال عكّا" واحد من الأسماء التي أُطلقت على الكاتب والصحفي والرسام والناطق الرسمي باسم "الجبهة الشعبية" المناضل الشهيد غسّان كنفاني سردا مفصّلا لسيرة رجل استثنائي لم يعش سوى ستة وثلاثين عاما قضاها بين عكّا ويافا وصيدا وبيروت ودمشق والكويت. تلملم رائدة شتات ذاكرته وذكراه وكأنها أمام لعبة "بازل" عليها أن تنظّم ألوانها وأجزاءها المتناثرة في كلّ المحطات التي مرّ بها بطل حكايتها، الذي عرفته في طفولتها صديقا مقرّبا لوالدها علي طه، تنبش رائدة في دفاتر غسان كنفاني ودفاتر زوجته آنّي وشقيقته فازة ووالده فارس ودفاتر والدها وبعض أصدقاءه ورفاقه وفي كلّ ما كُتب عنه لترسم ملامح بطل وسيم عُرف لدى الكلّ بهدوئه وتصالحه كفلسطيني مع فكرة الموت كشيء عبثي إلى حدّ يشارط صديقه علي طه عمّن يموت الأول (مات علي قبل غسان بشهرين دون أن يعرف أنه ربح الشرط)
في سردها لسيرة فارس فارس ـ أحد الأسماء التي كان يمضي بها غسان مقالاته ـ كانت رائدة تحكي سيرة بلد محتل وشعب مهجّر يعاني الشتات والقمع والتهجير وكلّ أشكال الاستبداد وأبشع أساليب التعذيب والقتل... تاريخ مليء بالحقارات والوقاحات وحاضر أكثر وقاحة وحقارة، تتوقّف عند كلّ محطّة أقام بها بطلها لتحكي فصلا من فصول بطولته بدءا من لحظة خروجه صغيرا مهجّرا مع عائلته من عكّا إلى لحظة اغتياله بتفجير سيارته أمام بيت شقيقته فايزة، اللحظة التي سردتها بوجع كبير واصفة بشاعة الحادثة بدقّة وكأننا أمام شريط مصوّر من فيلم أو نشرة أخبار وكيف تناثرت أصابعه على الشجرة وتلاشت باقي أطرافه (صدر بلا أرجل) وكان لا بدّ في هذا المفصل من السيرة استدعاء مرثاة درويش "اكتملت رؤياك ولم يكتمل جسدك، تبقى شظايا منه ضائعة في الريح وعلى سطوح منازل الجيران، كم يشبهك الوطن... وكم تشبه الوطن"
بعد خمسين سنة من اغتيال غسان كنفاني عاش أكثر من السنوات التي عاشها حيّا، ظلّت حياته ملهمة للشعراء والكتّاب والرسامين وظلّت كتبه تؤرّخ لشخصيّات عرفها واستلهم منها شخوص رواياته على غرار "أم سعد" التي أحبها لأنها كانت تمثّل الطبقة الفقيرة وصوت المخيّمات، تستحضرها رائدة بلكنتها الجميلة "الغزّاوية" في حواراتها الكثيرة مع غسان كما تستحضر حوارات أخرى مع أشخاص عاشروه كوالده وشقيقه وشقيقته وآخرون... حوارات تبدو مفرداتها عاديّة لكنها مغرقة في السياسي ودالّة على المعاناة اليوميّة للشعب الفلسطيني وحقارة سلوك المحتل.
كلّ هذا اختزلته رائدة طه في كتابة عاشقة ـ هي بحث وتجميع استمرّ لسنوات ـ لم تخلو من كوميديا سوداء في بعض مفاصلها لبطل ملهم في زمن لم يتجاوز الستين دقيقة بتكثيف المعاني وشمولية الأحداث التي توقّفت عند أبرزها وأبسطها وكلّها ضرورية لتحيط بكلّ جوانب غسان كنفاني الإنسانية والنضالية والأدبية رجل عشق الحصان وحمل صفاته، سخر من الموت العادي رغم الأمراض التي ابتُلي بها صغيرا وقال "أيها الفلسطينيون احذروا الموت العادي"... فكان مصيره موتا خلّده في الذاكرة الجماعية وقبل كلّ هذا في ذاكرة أعداءه الذين اعتبروا أن "العربي الجيّد هو العربي الميّت".