تكون الانطلاقة لنقد واقع المجتمعات العربية وأنظمتها فالمسرح فضاء للمجاز وللنقد في الوقت ذاته والمسرح اختاره المخرج حكيم حرب ليكون ملاذه كلما ضاقت سبل النقد و رغب في البوح والصراخ اتكئ على نصوصه وشخصياته يسكنها بالكثير من الغضب والتمرد ليولد العمل مشاكسا ومختلفا.
وامام جمهور قرطاج قدم "انتيجوني" بروح جديدة، من بين ركام النصوص بعث حرب شخصيات الاسطورة اليونانية وزرع فيها حياة العصر الراهن والبسها مفردات الآن والهنا لتنقد واقع التشتت والاستبداد والمسرحية من اداء حكيم حرب، شام الدبس، محمد كيمو ومحمود الزغول، والإضاءة لماهر جريان والمؤثرات الصوتية لعمران العنوز.
النساء مانحات الحياة والشموخ
تقاوم النساء حد الرمق الاخير دائما، تقاوم الأنثى لتحقق ذاتها وتدافع عن افكارها واختلافها ومنذ بدايات التاريخ صنعت النساء الاوطان وكتبت النساء التواريخ المنتصرة، فالمرأة فكرة ووطن لا يهزم حتى بالموت هكذا اراد حكيم حرب ان ينتصر للوطن وللمراة في مسرحية "انتيجوني" التي تحاكي فترة سقوط طيبة واسقط المخرج الكثير من المعطيات الاسطورية على واقعنا اليوم في بلداننا العربية.
استعمل المخرج الاضاءة كمطية اساسية لتقسيم الركح والفصل بين المشاهد، كما كانت الاضاءة والموسيقى الصاخبة سلاحه لابراز انفعالات الشخصية ورغبتها في التحرر، بالموسيقى ينقل حرب جمهوره الى قوة انتيجوني ورغبتها الصادقة في التمرد فابنة "اوديب" تخالف اوامر الحاكم الجديد لطيبة وتقرر حفر قبر يواري جثة اخيها المقتول غدرا والممنوع من الدفن بأوامر عسكرية، تلك الشابة الحالمة والرقيقة تتمسك بكل حقوقها وتستطيع ان تقول "لا" للحاكم والعسكر ومن قوة انتيجوني الشخصية الى قوة الممثلة كانت اللعبة المسرحية والحياتية.
"انتيجوني" اول شهيدة في المسرح اليوناني، اول النساء اللواتي اختارت الموت والكرامة على العيش في بلاط حاكم قاتل ومتآمر على مدينة طيبة، "أعرف أن لا أحد يبالي بما فعلت، لكني لن أرضخ ولن أستجدي دمعةً من أحد، سأغادر هذا العالم محرومة من كل شيء، مدركةً لحقيقة : بما أنه لا وطن إذن لا سلام، أما أنتم الصامتون الخائفون على حياتكم فأنا أشفق عليكم من ذلك الشعور بالذنب الذي سيقض مضاجعكم، فالدور في المرة القادمة سيكون عليكم"، هكذا كتبت انتيجوني وصيتها، كلمات تحيل الى معنى الصمود والتمسك الحقيقي بالكرامة والعزة تماما كمدينة غزة الحالمة التي اهدي لها المسرحية، فمن وجع غزة اعيدت الحياة الى شخصيات مسرحية "سقوط طيبة".
"انتيجوني" فكرة حقيقية للتمرد وللصدق، فالشخصية التي تناولها الكثير من المسرحيين تقبل العديد من القراءات والاسقاطات، انتيجوني هي كل فكرة ترفض الظلم، هي الحقيقية الجميلة المشعة وسط شمس الدم، هي المدن الصامدة والمقاومة، هي "غزة" المحبة للحياة والمنتصرة للأمل رغم كل عنف العدوان وجبروته.
"انتيجوني" شخصية قديمة بروح معاصرة
كتبت الكثير من المسرحيات حول شخصيات اوديب وكريون وانتيجوني، غادر كتاب هذه النصوص وبقيت الشخصيات حية الى اليوم، فلازالت مأساة أوديب تلهم الكتاب، فالمسرح لا يموت والشخصية تتلبس دوما بارواح متجددة ورؤى فكرية متغايرة.
تتعاقب على الشخصية ذاتها ارواح متمردة واخرى حالمة وكل ممثل يعطي الكثير من روحه لتظل تلك الشخصية خالدة ما خلد المسرح، على الركح بعث حرب الحياة في انتيجوني (شام الدبس) وكريون (حكيم حرب)وجعل الحوار بينهما حول السلطة والاستبداد، الحياة والموت، العدل والظلم وثنائيات كثيرة بني عليها الحوار بين الشخصيات وكانت الرمزية الأولى لقراءة العرض.
تصنع السينوغرافيا جمالية مختلفة، تتوزع الاضاءة بطرية خافتة ما يتطلب الكثير من التركيز لحركة الممثل في فضاء اللعب، الموسيقى المستعملة من التراث الاردني مع بعض الإيقاعات العالمية الصاخبة لابراز حالات الخوف والقوة معا، كما استعمل المخرج الكوريغرافيا وحركات جسد الممثل للتعبير عن حال المدينة المنهكة من الحروب وكل المؤثرات كانت في ركح خاو من الديكور، فقط كرسي اثناء المحاكمة اما بقية العمل فالممثل وحده زينة الخشبة ومساحة للذاكرة البصرية للمتلقي.
"انتيجوني" مساحة من التحرر من كل القيود، دعوة للثورة الذاتية والجماعية، هي اعادة استقراء لتاريخنا اليوم عبر اضافات تقنية مثل المابينغ والفيديو، فاثناء الحوار بين "انتيجوني" وخالها "كريون" الحاكم الجديد يشاهدان "فيديو" يكشف اعترافات الكاهن بتورطه في جريمة مقتل اوديب الملك، والحاكم بدوره يمرر فيديو يخص خيانة الاخوين لطيبة، وتوظيف التقنيات السينمائية المعاصرة في نصوص بروح كلاسيكية يعطي نفسا جديدا للمسرحية وللشخصيات ايضا، محاولة للتجريب لمزيد شدّ انتباه المتلقي لشخصيات ربما شاهدها سابقا في اعمال مسرحية عديدة، وبذلك يكون حكيم حرب قد خاض مرحلة جديدة في ولادة الشخصيات وتجريبها على الخشبة.
"انتيجوني" مسرحية تستحضر كل خيبات الماضي وصراعات الحاضر وتضعها الخشبة عارية من الزيف، تجربة للحقيقة ونداء صارخ ضد كل اشكال القمع والظلم.