قهوة الاحد: الجنوب في النظام العالمي (6) من اجل نظام عالمي أكثر عدلا وتوازنا

تركزت مطالب الجنوب المعولم حول ضرورة ادخال إصلاحات جذرية على النظام العالمي ليكون أكثر عدلا وتوازنا .

وهذه المطالب ليست الجديدة بل صاحبت بلدان الجنوب منذ تحصل الكثير منها على استقلالها منذ بداية الخمسينات في اطار مجموعة عدم الانحياز وبصفة خاصة عند اعتمادهم لبرامج النظام العالمي الجديد في السبعينات .

وترتكز هذه المطالب على فرضية اساسية في أدبيات الاقتصاد السياسي للتنمية وهي بناء الدولة الوطنية والخروج من التبعية الاقتصادية للمركز الرأسمالي واعتبار ان لن يتم دون اصلاحات جدية للنظام العالمي تحد من ديناميكية التطور اللامتكافي والذي تساهم في دعم التفاوت وعدم المساواة. وقد قامت اغلب البلدان النامية بوضع برامج تنمية وطنية تعمل على دعهم استقلالها السياسي باستقلال اقتصادي يقطع مع التبعية للمنظومة الاستعمارية .الا ان تلك السياسات لن تحقق اهدافها حسب أدبيات الاقتصاد السياسي للتنمية بما انها واصلت انتاج التبعية في ظل النظام العالمي .
واصبحت هذه الفرضية حول ضوررة اصلاح النظام العالمي شرطا اساسيا لبناء ونجاح المشروع الوطني هي مسالة مركزية في التفكير الاستراتيجي لبلدان الجنوب المعلوم .وقد عبر بلدان الجنوب عن هذا المطلب حلال السبعة العقود الاخيرة في اطر ومؤسسات مختلفة من الامم المتحدة الى مجموعة عدم الانحياز ومجموعة العشرين وصولا اليوم الى مجموعة البريكس .تغيرت الظروف التاريخية والمؤسسات الا ان مطلب الجنوب المعلوم حول اكثر ضرورة ارساء نظام عالمي اكثر عدلا وتوازنا بقي مركزيا في التفكير الاستراتيجي والممارسة السياسية لهذه البلدان .لكن مطالب الاصلاح تغيرت من فترة الى اخرى لتأخذ بعين الاعتبار التحولات الكبرى التي يعيشها العالم .
وسنحاول في هذا المقال الوقوف على المجالات الأساسية للاصلاح التي تشكل في رأيي مفتاحا أساسيا لانفتاح النظام العالمي على الآخر .وقد أثارت هذه المسالة العديد من النقاشات والمساهمات على مستوى المؤسسات الدولية ومراكز التفكير المستقلة .
وقد دافعت اغلب المؤسسات والدول وكذلك مفكرو الجنوب المعولم عن هذه المطالب كما لقيت كذلك الكثير من الدعم من مفكري ومؤسسات البحث في البلدان المتقدمة و اعتبر الكثيرون منها انه حان الوقت للقطع مع الاليات البالية للنظام العالمي الموروث من الحرب العالمية الثانية والقيام بالإصلاحات الضرورية لبناء نظام اكثر عدلا وتعددا.إلا ان بناء هذه النظام المتعدد الاطراف الجديد يمر بادئ ذي بدء بالاتفاق على المبادئ التي تقوده .
- اية مبادئ للنظام العالمي الجديد ؟
حظيت مسالة المبادئ التي يجب ان يتم عليها اعادة بناء النظام العالمي الجديد بالكثير من النقاش والجدل.ولعل المسالة الأساسية التي اثارت اهتمام السياسيين والمفكرين والتي كانت وراء ازمة النظام المتعدد الاطراف هي مسالة الثقة بين كل عناصر المنظومة الدولية .وقد خبرت بلدان الجنوب المعلوم هذه المسالة والتي دفعتها الى عدم الاقتناع بقدرة هذا النظام على ضبط علاقات جدية وحقيقية .وفي هذا الاطار فإن المبدأ الاهم الذي يجب ان يسعى الجميع من دول ومؤسسات دولية هو اعادة بناء الثقة بين مكونات النظام الدولي وقدرته على بناء استقرار جماعي وكذلك الامن والسلم العالمي .
إلا ان هذه الثقة مرتبطة بجملة من المبادئ الاخرى وأولها ادماج بلدان الجنوب المعلوم في ادارة النظام العالمي وحوكمته .وبالتالي فإن اعادة بناء النظام المتعدد الاطراف يتطلب القطع مع التهميش الذي عاشته بلدان الجنوب المعلوم في النظام الموروث من الحرب العالمية الثانية .
اما المبدأ الثالث الذي تتطلبه عملية اعادة البناء فيهم التوازن بين مختلف مكونات بلدان وبلدان المنظومة الدولية وبصفة خاصة بين البلدان الرأسمالية المتقدمة وبلدان الجنوب المعلوم .
وفي إطار هذا البحث عن المبادئ الجديدة لابد من اضافة مبدأ العدالة بين مكونات المنظومة الدولية عند التعاطي مع الأزمات الكبرى والقطع مع التحيز الذي ميز العلاقات الدولية خلال العقود الفائتة .ويمكن أن نضيف الى هذه المبادئ مسالة الشفافية والانفتاح وتشريك مؤسسات المجتمع المدني والمنظمات الاجتماعية في اخذ القرارات الكبرى .
وتبقى مسالة الامكانية قضية اساسية باعتبار ان محدوديتها تنقص من فعاليتها وقدرتها على دعم البلدان .وفي هذا الاطار فإن محدودية وضعف امكانيات المؤسسات المالية العالمية كالبنوك العالمية والقارية التي تشكل عائقا أساسيا لتدخلها ودعمها المالي بصفة خاصة لبلدان الجنوب المعلوم .
والى جانب هذه المبادئ يمكن ان نضيف كذلك فعالية المؤسسات الدولية وقدرتها على الانجاز والتغيير .فقد ساهم التأخير الكبير في تنفيذ قرارات المؤسسات الدولية وهيمنة المسائل والإجراءات البيروقراطية في تراجع مشروعيته وثقة العموم بها .
أما المبدا الأخير والمهم في رأيي فيهم الجانب الاستشرافي في النظام المتعدد الأطراف وقدرته على استباق الأزمات وايجاد الحلول لتجنب المخاطر الكبرى .
تشكل هذه المبادئ قاعدة اساسية وضرورية للانطلاق في الإصلاحات الكبرى للنظام العالمي لبناء نظام جديد اكثر توازنا وعدلا .
- الاصلاحات الكبرى للنظام العالمي
الى جانب المبادئ الكبرى التي يجب ان ترتكز عليها عملية البناء فإن النظام العالمي الجديد لابد ان من القيام بإصلاحات كبرى في سبعة مجالات من شانها ان تهيئ الظروف للاستقرار العالمي والسلم والتنمية .
يهم الجانب الاول الحكومة وضرورة القيام بإصلاحات كبرى للمؤسسات الدولية لتمكين بلدان الجنوب المعلوم من التواجد والاندماج.ومن ضمن هذه المؤسسات يمكن ان نشير الى منظمة الأمم المتحدة وبصفة خاصة مجلس الامن من اجل فتح العضوية لأكبر عدد من البلدان وتمكينها من نفس الحقوق وبصفة خاصة حق الفيتو .وهذا المطلب ليس جديدا الا ان الأعضاء الدائمين في مجلس الامن واجهوه بالرفض في كل مرة .الا انه حان الوقت للتعاطي بكل جدية مع هذا المطلب لتصبح هذه المؤسسة اكثر انفتاحا على بلدان الجنوب المعلوم .
كما يمكن لنا ان نشير في هذا المجال الى المؤسسات المالية العالمية وبصفة خاصة صندوق النقد الدولي والبنك العالمي وقد طالبت عديد البلدان وبصفة خاصة الصين والهند والبرازيل باعطائها مواقع اكثر تعبيرا على حجمها في الاقتصاد العالمي .إلا أن الإصلاحات التي أقدمت عليها هذه المؤسسات لم تحسن مواقفها بطريقة هامشية .وقد اصبح هذا المطلب محل توافق بين عدد كبير من البلدان ويتطلب فتح المجال بطريقة جدية لبلدان الجنوب المعلوم قي هذه المؤسسات .
اما المجال الثاني من الإصلاحات فيهم قضايا المناخ والانحباس الحراري والتي تتطلب قرارات سريعة وجدية لمواجهة هذا التحدي الذي أصبح يشكل خطرا كبيرا على الإنسانية .
ويخص المجال الثالث لهذه الاصلاحات القضايا الاجتماعية ومحاربة الفقر والتهميش الاجتماعي .وقد ساهم تزايد الفوارق الاجتماعية على المستوى العالمي في زعزعة الاستقرار السياسي في عدد كبير من البلدان.وتطلب عملية اعادة بناء النظام العالمي الانخراط بكل جدية في اعادة صياغة وتركيز العقد الاجتماعي لدعمن الاثستقرار والثقة .
اما المجال الرابع للإصلاح فيهم التطور التكنولوجي الكبير الذي نعيشه والذي اصبح يثير الكثير من المخاوف خاصة في مجال الذكاء الاصطناعي .
وهذه التطورات والمخاوف تتطلب توافقات كبرى على المستوى العالمي للحد من خطورتها وجعلها عاملا ايجابيا يمكن ان يساهم في تطور الإنسانية .
أما المجال الخامس فيهم قضايا السلم العالمية والأمن الجماعي للحد من الحروب والجريمة المنظمة التي تهدد استقرار العالم .
ويهم المجال السادس المسائل المالية وضرورة اصلاح المؤسسات المالية الكبرى حتى تكون قاردة على تمويل البلدان النامية والوقوف على جانبها في الازمات المالية الكبرى .
ويخص المجال السابع المخاطر الكبرى كالجوائح والتي تتطلب قدرةى استشراف لمواجهتها وخاصة الوقوف الى جانب البلدان النامية والفئات الاجتماعية الفقيرة لتجنب انعكاساتها الخطيرة .
لقد عرف العالم منذ أشهر حالة من الغضب والاستياء من قبل دول الجنوب المعلوم نظرا لتزايد وعدم قدرة النظام العالمي على ايجاد الحلول للمخاطر الكبرى التي تهدد النظام العالمي..وقد كانت ثورة بلدان الجنوب المعلوم وراء تزايد المطالب لانهاء الهيمنة الغربية وتأسيس توازن عالمي جديد من خلال القيام باصلاحات كبرى وجوهرية .وأصبحت هذه الإصلاحات وشعرية مطالب بلدان الجنوب تحظى بدعم واسع .
الا ان القيام بهذه الاصلاحات يواجه تحدين رئيسين .التحدي الاول يهم واقع العالم وحالة التشظي (Fragmentation) التي يعشها العالم والتي تجعل مهمة بناء التوافقات الكبرى شبه مستحيلة .
اما التحدي الثاني فيخص تنامي التوجهات الشعبوية والسلطوية والتي ترفض الآخر وترفض الانفتاح على بناء توافقات تمكننا من بناء علي ونظام عالمي جديد متعدد وديمقراطي .
وبالرغم من هذه التحديات فإن مهمتنا تبقى في مواصلة العمل والتفكير من اجل فتح لحظة زمنية جديدة ومرحلة تاريخية مهمة للتجربة الجمعية .

المشاركة في هذا المقال

تعليقات49

Leave a comment

Make sure you enter the (*) required information where indicated. HTML code is not allowed.

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115