بعد رفع سن التقاعد إلى 64 عاما، هل تدخل فرنسا في أزمة نظام؟

لم يهدأ الشارع الفرنسي منذ تمرير الحكومة لقانون التقاعد الجديد الذي يفرض رفع سن التمتع بجراية التقاعد كاملة إلى 64 عاما عوضا عن 62 سنة حاليا.

وتواصلت المظاهرات التلقائية في جل المدن الفرنسية منددة باستخدام الوزيرة الأولى إليزابيت بورن البند 49.3 من الدستور الذي يمكن الحكومة من "التصديق" على مشروع القانون دون اللجوء إلى التصويت عليه في البرلمان.

وكان نص القانون الجديد قد واجه بند 49.3 مرة أولى في الجمعية الوطنية (الغرفة الأولى في البرلمان) بعد أن استعملت الحكومة البند 47.1 من الدستور للحد من زمن مناقشة بنود القانون. أما مجلس الشيوخ، الغرفة الثانية، الذي يسيطر عليه اليمين الجمهوري فإنه تمكن من التصويت لفائدته بعد بعض التنقيحات. وأغضب هذا الوضع أغلبية من البرلمانيين المعارضين للمشروع الذين التحقوا بالتجمع النقابي للتنديد في شوارع فرنسا بالنهج المتخذ من قبل الحكومة. وزاد غضب النقابات بعد أن رفض الرئيس إيمانويل ماكرون قبول وفد نقابي بعد استخدام الحكومة بند 49.3.
مواصلة النضال ضد القانون
بعد ست جولات من المظاهرات والإضرابات في جل المدن الفرنسية، قررت النقابات، التي تنظمت في ائتلاف كامل لأول مرة منذ أكثر من عقدين، مواصلة الاحتجاجات الشعبية وأعلنت عن تنظيم مظاهرات جديدة يوم الخميس 23 مارس. لكن النقابيين القاعديين قرروا مواصلة التحركات عن طريق الإضرابات والمظاهرات دون سابق اعلام قانوني وذلك مباشرة بعد تمرير القانون يوم الخميس 16 مارس. وتحولت المظاهرات في مدن باريس ونانت و روان وغيرها من المدن إلى مواجهات مع قوات الأمن التي استخدمت القنابل المسيلة للدموع لتفريق المتظاهرين. وعمد بعد "المخربين" المندسين في صفوف النقابيين إلى احراق بعض المحلات التجارية والسيارات ورمي أعوان الشرطة بالحجارة.
ودخلت نقابات قطاعية في النقل والبلديات وتوزيع المحروقات في إضرابات مستمرة من أجل ادخال البلاد في حالة شلل. وهو ما جعل شركات الطيران تحد من اعمالها بنسبة 30% كذلك الشأن بالنسبة للنقل البري. أما عملة شركات النفط فقد احتلوا مخازن التوزيع وأغلقوا مداخل مراكز تكرير النفط على كامل التراب. وهددوا بإيقاف انتاج المحروقات في صورة ما لم تتراجع الحكومة عن فرض القانون الذي، حسب تقديرهم، مرفوض من قبل الشعب. ودخل عملة البلديات المعنيون برفع القمامة والفضلات في إضرابات مفتوحة في عديد المدن من بينها باريس التي أصبحت تعاني، وعلى ابواب الموسم السياحي، من تراكم القمامة على الأرصفة وانتشار الجرذان وتكاثر الروائح الكريهة في الشوارع مما ينذر بتفشي الأوبئة. ولا توجد إلى حد اليوم أي بوادر للانفراج بسبب إصرار عملة البلدية على مواصلة التحركات النقابية إلى حين اخذ مطالبهم بعين الجد.
الحكومة بين نارين
وأعلنت قيادة حزب الجمهوريين وبعض النواب في البرلمان أنهم سجلوا اعتداءات بالعنف مختلفة ضد مقرات الحزب. وتعرض نواب للشتم والسب والتهديد بالقتل عبر مواقع التواصل الاجتماعي. وقام بعض المحتجين بالهجوم في مدينة نيس على مقر النائب إريك سيوطي رئيس حزب الجمهوريين ووقع تهديده في حرمته الجسدية. وأدت كل هذه التحركات إلى إيقاف أكثر من 400 شخص شاركوا في مختلف عمليات اللجوء إلى العنف. وتجد السلطات ضغوطات من وجهتين، الأولى نقابية والثانية برلمانية وسياسية.
وعبر الرئيس ماكرون في نص أرسله إلى وكالة فرانس براس أنه يرغب في أن "يواصل مشروع القانون إلى آخر مشواره الديمقراطي". أي أن ينحصر الخلاف في المؤسسات الديمقراطية المنتخبة. وقد كرر أعضاء في الحكومة فكرة أن زمن الحوار الاجتماعي أخذ مجراه وانه الآن لا بد من انهاء العمل البرلماني في إطار الدستور. أما المعارضة السياسية فقد تحركت بتقديم لائحتي لوم ضد الحكومة آملة في الإطاحة بها وقبر مشروع القانون. ويعتقد الخبراء في باريس أن المعارضة لقانون التقاعد بمختلف فصائلها لن تجد بسهولة أغلبية في البرلمان لتمرير لائحة اللوم. لكن الجانب النقابي أصر على مواصلة الإحتجاجات بشتى السبل الممكنة.
بوادر انقسام الشق النقابي
وأطلقت نقابات التعليم الثانوي نداء للأساتذة لمقاطعة امتحانات الباكالوريا التي انطلقت يوم الإثنين مهددة بذلك المسار التربوي. وفي حين تعمل إدارات المعاهد على ضمان السير العادي للامتحانات بتوفير المراقبين اعلن لورون برجي زعيم الكونفدرالية الديمقراطية للعمال معارضته لمثل هذا التحرك الذي من شأنه أن يضع الشباب في موضع الرهينة ولا بد أن تسير الأمور في كنف الهدوء. أما فيليب مارتيناز زعيم السي جي تي، النقابة الحليفة والمنافسة، فقد عبر عن عدم مساندته للتحرك وفي نفس الوقت تفهمه لموقف الأساتذة. وهو ما يعكس بوادر الانشقاق التي بانت في الأيام الأخيرة وخاصة في رفض الكونفدرالية الديمقراطية الدخول في إضرابات عشوائية واللجوء إلى الإضراب العام. وإن يفهم ذلك كوسيلة لتوزيع الأدوار داخل الصف النقابي لمحاولة التأثير على قصر الإليزيه وفي نفس الوقت فتح باب الصلح، ولا يعتقد الملاحظون أن ذلك سوف يسفر عن نتيجة طالما لم يتم إقرار القانون نهائيا.
مشروع استفتاء
على المستوى السياسي، تقدمت كتل برلمانية ومستقلون لرئاسة الجمعية الوطنية بمشروعين مختلفين لتنظيم استفتاء تشاركي ينص على عدم الموافقة على البند السابع من القانون الذي يقر رفع سن التقاعد إلى 64 عاما. ويرغب ائتلاف اليسار في البرلمان في الحصول على إيقاف القانون مدة تسعة أشهر تستخدم لتنظيم الاستفتاء. ومن المفروض أن تنظر رئيسة البرلمان في قبول المشروع من عدمه. وفي حالة قبوله، وهو مسلك يفتح الباب أمام التفاوض من جديد، فإن المجلس الدستوري يمكنه أن يقر مبدأ الاستفتاء الشعبي على أن يرجع نص مشروع القانون أمام البرلمان الذي يمكنه إعادة صياغته من أجل التوصل إلى أغلبية انتخابية، وفي حال فشله في ضمان أغلبية يمر العمل مباشرة بالاستفتاء مع تعليق القانون الجديد.
في هذا الصدد، وفي كل السيناريوهات المحتملة، تعد النقابات تحركات مختلفة لمواصلة الضغط على الحكومة وعلى مؤسسات الدولة من أجل منع القانون الجديد. ويشير الوضع الحالي إلى دخول فرنسا في شبه "أزمة نظام" موجهة مباشرة ضد توجهات الرئيس إيمانويل ماكرون واستخدامه لآليات دستورية تفرغ الديمقراطية من محتواها. كل الأصوات المعارضة وبعض أصوات المساندين من الجمهوريين وحتى من داخل الائتلاف الحكومي أصبحت ترفض "احتكار" القرار من قبل قصر الإليزيه وأسلوب التعالي الذي فرضه ماكرون على باقي القوى السياسية. وأمام استفحال الأزمة واستحالة تمرير القانون، تبقى أمام رئيس الدولة حلول بديلة تتمثل أولا في العمل على "تعفين" الوضع باستغلال ظاهرة العنف التي يمكن أن تهز التحالف النقابي، وثانيا، في إمكانية استقالة الحكومة الحالية وتعيين حكومة جديدة، وفي آخر المطاف سيناريو حل البرلمان وتنظيم انتخابات تشريعية سابقة لأوانها. لكن ذلك الحل الأخير ترفضه جل الأحزاب اليسارية المعارضة كما المساندة لماكرون لخوفها من أن ينتصر حزب التجمع الوطني المتطرف في ظل هذه الأزمة وأن تقع فرنسا – كما وقعت إيطاليا فيه في شهر سبتمبر الماضي – في شراك اليمين المتطرف كما تدل عليه كل استطلاعات الرأي.

المشاركة في هذا المقال

Leave a comment

Make sure you enter the (*) required information where indicated. HTML code is not allowed.

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115