عرض "رحّل" لثريا بوغانمي: حين تعيد الاجساد كتابة التاريخ وتعيد استقراء الحضارات عبر الرقص

الجسد حياة، الجسد تاريخ وتأريخ، الجسد مطية لإعادة قراءة الواقع وفهم حكايا السابقين وقصص الأولين، الجسد ولغته هو اللغة الأولى للانسان، هو أول علامات الفرح والترح والجسد حمّال معان

ودلالات وحدهم الراقصون يعرفون كيفية الامساك بخبايا هذه اللغة الساحرة ويرحلون بها بعيدا الى خبايا الذاكرة والتاريخ وحتى الجغرافيا فلغة الجسد تصاحب البشر في الحل والترحال وكذلك كان "الرحل".
رحّل" كوريغرافيا وإخراج ثريا بوغانمي ونصوص لعبد الحليم المسعودي، سينوغرافيا لصبري العتروس وحسين التكريتي وموسيقى لنصر الدين الشبلي واداء صوتي لمحمد شعبان، العمل من تمثيل واداء كلّ من قيس بولعراس وحسام الدين عاشوري وهادية عبيد وعز الدين بشير واسماء مروشي واسامة شيخاوي وبوبكر غناي.
الرقص تيمة للحياة
ثمانية أجساد على الركح، الإضاءة تقسم الفضاء المكاني الى ثمانية أروقة حسب عدد الراقصين، تترك لهم كامل المساحة خاوية ليعبروا ويصنعوا ملحمتهم الإبداعية، ترتفع الموسيقى تدريجيا على وقع ضربات الأقدام على الأرضية، ذلك ان موسيقى أجساد الراقصين ستكون الشيفرة الأولى لتفكيك العمل والرحيل معه الى عالم تنتفي فيه اللغة، فقط الجسد يحوك معانيه وشيد قصوره اللغوية المميزة جدا .
أجسادهم تصنع ملحمة على الركح، تنطلق بسرعة كأنها تخوض حربا للحياة، ثمانية أجساد نسائية ورجالية، دون اسم او عنوان أو دلالة على مكان او تاريخ، فقط الأجساد تصنع عالمها الفرجوي المغري بمزيد الانتباه.
"رحل" هو اسم العرض، هي قصة الإنسان منذ صرخة الحياة الى صدى الموت، تلك الرحلة الشاقة والجميلة في الوقت ذاته تحولها ثريا بوغانمي انطلاقا من نصوص عبد الحليم المسعودي الى عرض مسرحي راقص قوامه لغة الجسد وانسيابية الحركة لإيصال المعنى وبلوغ نشوة الرقص المسرحي مع أجساد حالمة لممثلين وراقصين يضعون كل أحلامهم في وعاء الجسد وتاريخيته.
"رحل" سيرة الانسان، من البداية إلى النهاية وما بينهما من قصص مشوقة تكتبها الأجساد، رحل سيرة البشرية انطلاقا من الإنسان التونسي، الجسد لغة مطلقة لا يحدد بمكان او هوية، فهوية الجسد الرقص والانطلاق الى مغامرات متعددة، لا يمكن سجنه في دين او لغة او هوية واحدة، فالجسد متعدد ومختلف ومتلوّن هكذا هم "رحل" بشر ينتقلون منذ القديم من مكان الى آخر وكلما أقاموا في مكان حملوا معهم حركاتهم وموسيقاهم وحكاياتهم وجميعها صنعت التعددية الثقافية التي يعرفها إنسان اليوم.
"رُحّلْ" عمل كوريغرافي مسرحي يتوغل لاستكشاف تخوم الغريزة الخفية للإنسان. أي رغبته الدائمة مهما كان الزمن ومهما كان الفضاء في انجاز تجربة التيه والترحال وهي تجربة أقاص لا محالة، أو بالأحرى تجربة تجريب الأقاصي الجوّانية والبرّانية في حياة الإنسان من خلال الجسد الراقص خارج نمطية الأنساق" كما تقول مخرجة العمل، فهو رحلة دائمة تخوضها اجساد الراقصين على الركح تتشاارك في فكرة الترحال مع متلقي العمل.
انصتوا للغة الجسد فهي رديف للتاريخ والحضارات
تصنع الاجساد رحلتها المختلفة، تتمرد على القيود الجغرافية والحدود المكانية، ترقص وتتحرك بسرعة كضوء يخترق صفحات السماء، صوت الفنان محمد شعبان يقرأ نصا عن فكرة التيه والترحال يرافق بعض مشاهد العمل، الاجساد تستعمل كثيرا حركات اليد للدلالة على الاستفهام، ربما السؤال عمن قيّد الجسد؟ من وضع الحدود المكانية وضيّق على البشر ترحالهم وسفرهم الدائم؟ اي قوة يملكها الجسد ليتأقلم مع الطبيعة من جديد ويواصل سفره الروحي الذي لا قيود ولا نهايات له الا بفكرة الموت؟.
تختلف الحركات والمشاهد ومعها تختلف رحلة دائمة لاجساد ترفض القيد او الحدّ، الموسيقى في العمل وسيلة لتفكيك شيفرات الجسد، موسيقى الكترونية، مع موسيقى تونسية اذ يرتفع صوت الطبل كثيرا في بعض المشاهد، ثم تكون اكثر هدوءا في تماه مع صوت الناي وإيقاعات خفيفة، موسيقى العالم يختصرها نصر الدين الشبلي صانع الموسيقى في "رحل"، تتماهى حركات الجسد مع الإيقاعات الموسيقية ليكتشف المتلقي الحضارات والشعوب الكثيرة التي مرت على هذه البلاد عبر موسيقاه وشطحات الجسد من الرقص المعاصر الحديث الى رقصات الصوفيين وشطحاتهم الدائرية على صوت موسيقى موغلة في التصوف إلى الخطوة التونسية "الحجالي" و"الزقايري" فرقصات تشبه رقصات الفلامنكو، خطوات مختلفة وإيقاعات أكثر اختلافا تعكس ثراء المخزون الثقافي لتونس، تتبعه أجساد الراقصين وتنقلته إلى جمهور عرض "رحل".
تاريخ تونس وحضاراتها واعادت كتابته اجساد الراقصين في رحّل، على الركح تصبح الاجساد والخطوات كانها كتاب تاريخ مفتوح على ازمنة متعددة وشعوب وقبائل مرت على هذا الوطن الصغير، بأجسادهم اعادوا قراءة التاريخ وتقديمه للجمهور، خطواتهم كانك بطفل صغير يفتح كتاب الحكايات الضخم ويغوص فيها، من الرومان الى البيزنطيين فالوندال والاسبان والمسلمين والبربر والبدو والحضّر، رقصات الكادحين وعمال البحر، حركات سكان القصور وتمايلهم الرقيق، قصص مختلفة، وتواريخ انسانية متباعدة زمنيا جميعها اعيد استقراؤها وامتطتها اجساد الراقصين والممثلين لتقدمها في عرض اسمه "رحّل" وهو رحلة في الزمان والمكان والحضارات، رحلة اثبتت ان لغة الجسد انسانية لا يمكن تقييدها او المساس من حريتها، لغة انسانية يمكن فهمها حتى وان عجزت عن فك شيفرات اللغة المنطوقة.
"رُحّلْ " عمل كوريغرافي محض، يقف عند حواف الملحمة التي ترويها الأجساد وتتلقفها الحركات ، عمل مسنود ومستند للقول اللامرئي الذي يذكر بوجوب التحرر من مآسي النهايات وجاهزية البدايات، عمل يدعو الانسان الى التحرر الكامل من كل القيود وحتى الموت يمكن التحرر من ربقته عبر الرقص، فالرقص ثورة كما تكتبه ثريا بوغانمي.

 

المشاركة في هذا المقال

Leave a comment

Make sure you enter the (*) required information where indicated. HTML code is not allowed.

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115