وداعا نور الدين بن عيّاد: "الرادار" يرحل بلا إشعار !

هناك فنّانون ومبدعون يرحلون فنشعر بغيابهم

وكأنّ مشهدا كاملا انطفأ، لأنهم كانوا ببساطة مثل النور الخفيف والخفي الذي كان يرافقنا دون أن ننتبه إليه. ولم يكن نور الدين بن عيّاد ممثلا عابرا ولا كوميديا يبحث عن "كاشي" أو تصفيق بل كان ابنا صادقا للشارع التونسي بكل تفاصيله الصغيرة ويومياته المعتادة. فكان قادرا، بلمسة واحدة، أن يحوّل الدور البسيط إلى ملامح حيّة تشبه الناس الذين يلتقيهم كل يوم. لذلك أحبّه الجمهور، ليس لأنه يبدع ويُضحك بل لأنه كان حقيقيا !

ومثلما كما كان حضوره خفيفا، كان رحيله خفيفا... فقط غياب موجع !

رحل نور الدين بن عيّاد، أمس الأحد 23 نوفمبر 2025، عن عمر ناهز 73 سنة، بعد مسيرة طويلة لا تُقاس بعدد الأدوار بقدر ما تُقاس بكمّ الصدق الذي ألبسه لكل شخصية.

بمنتهى الهدوء كما لو أنه اختار موعدا لا يزعج فيه أحدا، رحل نورالدين بن عيّاد كما تنطفئ الشمعة بعد أن تحترق لتضئ. كان ممثلا لا يظهر فقط ليقدّم شخصية أو حكاية بل ليقنعنا بأنّ الحياة نفسها مسرح هشّ، وأنّ للبشر دور يتبدّل، وأنّ الكلمة تظل تبحث عن صداها قبل أن تضيع في الهواء.
حين رحل، لم تمت الشخصيات التي جسّدها، بل خرجت من بين ثنايا الزمن وطفت مجددا على سطح الذاكرة، لتقف حول غيابه مثل أسراب من الذكريات. فمن ينسى "الرادار" في مسلسل "العاصفة"، وهو يتجوّل على دراجته الهوائية ملتقطا للأسرار وناقلا للأخبار؟ ومن ينسى "عزوز" في مسلسل "غادة"، الذي تنساب شخصيته في تلقائية حميمية وعفوية صادقة ؟ ومن ينسى "سي حمودة" في سلسلة "جاري يا حمودة"، صاحب المروءة والشهامة الذي أعاد لعمارة الحي الفاخر قيم التجاور والتضامن ودفء العلاقات الاجتماعية بين الجيران؟
يقال إنّ الممثل يموت مرتين: مرّة حين ينتهي الدور، ومرّة حين ينتهي الجسد. لكن يبدو أنّ الموت يتجسد في شكل ثالث هو النسيان. لذلك، ترك نورالدين بن عيّاد وراءه أدوارا محفورة في قلوب جمهوره الذي أحبّه بصدق ، وبادله الإخلاص والإعجاب من دور إل آخر.
لم يكن نور الدين بن عيّاد مجرّد ممثل وكوميدي بل كان واحدا من تلك الوجوه التي تدخل بيوت الناس دون استئذان، ثم تصبح جزءا من ذاكرة الزمان نفسه. وهو الذي عرف كيف يخفّف ثقل الحياة بابتسامة، وكيف يفتح نافذة ضوء وسط عتمة الأيام.
وُلِد بن عيّاد وفي داخله ميل فطريّ للمراهنة على "الإنسان" مهما كانت أبعاد الشخصية التي يؤديها. ربما لهذا السبب استطاع أن يسجل حضوره عبر التلفزيون والمسرح دون أن يفقد صدقه. في كلّ دور أدّاه كان هناك جزء منه، من انكسار يخفيه خلف نكتة، من حكمة يلقيها دون ادعاء، من دفء إنساني يتدفق دون قيد.
صنعت الأعمال التي قدمها خلال الثمانينات والتسعينات نجوميته، على غرار: خاطيني (1986)، العاصفة (1993)، غادة (1994)، الحصاد (1995)... في هذه الأدوار كان ينقل نبض الشارع ويتحدث بلسان الناس البسطاء،كما هم : بعفويتهم، بذكائهم البسيط، بقدرتهم العجيبة على تحويل الوجع إلى طرفة.
أما المسرح، فكان ضفته الأولى، وكان الركح فضاؤه الأرحب ليتحرّر جسده كما روحه في ملامسة السقف الأعلى من سماء الإبداع، فقدّم على سبيل الذكر لا الحصر: كاتب عمومي، وأولاد الحلال، ودرجّح درجّح يا درجيحة... وفي "السكاتشات" كان بن عيّاد يشبه الحكّاء الشعبي الذي يروي الضحك كما يروي الوجع، ويعيد ترتيب فوضى الحياة عبر مشهد بسيط لكن رمزيته عميقة الرمزية والتأثير على غرار: مسمار مصدّد، وحديقة الحيوانات، والعرّافات، والكار الصفراء...
لم يبحث نورالدين بن عيّاد عن النجومية بقدر ما صنعها عبر محبّة الناس له. ولا يزال الجمهور إلى اليوم يرى فيه ذلك الوجه الذي يستطيع أن يضحكهم دون أن ينفصل عنهم.
فسلام عليه يوم جاء إلى الشاشة…وسلام عليه يوم غادرها…وسلام على أثره الذي سيبقى خفيفا، بسيطا، ودافئا… كما كانت ابتسامة نور الدين بن عيّاد.

المشاركة في هذا المقال

Leave a comment

Make sure you enter the (*) required information where indicated. HTML code is not allowed.

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115