ومن قاعتها التي تحمل اسمها في متحف كروان لا لتقف على الأطلال ولا لتنتحب بل لتغنّي وترقص وتعشق ! في شكل مسرحية تجمع بين الأوبيرات والكوميديا الموسيقية و غيرها من الفنون تستدعي سيّدة كركوان جمهور مهرجان الحمامات الدولي في رحلة تاريخية وبصرية ووجدانية تسرد قصة مدينة رغم التدمير لم تمت، ورغم الحرب لم تُطمس ملامحها الأصلية والجميلة.
مساء 28 جويلية الجاري، سيكون عشاق المسرح والتاريخ على موعد استثنائي مع العرض الأول لمسرحية "سيدة كركوان" على ركح مهرجان الحمامات الدولي.
ذاكرة مدينة فريدة بين الحرب والحب
لم تكن البداية سوى مشهد قصير، 25 دقيقة فقط، خلال افتتاح شهر التراث 2025 . لكن شيئا ما في تلك اللحظات القليلة ظلّ يلحّ على أصحاب العرض، كأنّ روحا من الماضي لم تكتفِ بتلك الإطلالة الخاطفة، وأرادت أن تتكلم أكثر... أن تُحب، أن تصرخ، أن تحيا من جديد. وهكذا بدأت حكاية "سيدة كركوان".
اليوم ، وبعد شهور من العمل والبحث والتصميم، أصبحت "سيّدة كركوان" عرضا متكاملا يضم أكثر من أربعين ممثلا وراقصا ومغنيا من ولاية نابل. بتوقيع الثنائي وجدي القايدي وحسام الساحلي في الإخراج ومن إنتاج مركز الفنون الدرامية والركحية بنابل بدعم من وزارة الشؤون الثقافية ومهرجان الحمامات الدولي.
في متحف كركوان، جاءت تسمية قاعة "سيدة كركوان" في استعارة من غطاء تابوت خشبي على هيئة إنسان يصور الإلهة عشتار التي تسهر على سكينة الموتى وراحتهم الأزلية. ومن المتحف إلى المسرح، تخرج "سيدة كركوان" لا لتكون بطلة كلاسيكية، بل لتمثل رمزا أنثويا من زمن بوني بعيد، ولتُحيي ذاكرة مدينة بونية دُفنت تحت رماد الحروب، لكن ذاكرتها ظلت حيّة وملهمة للفن وللمسرح.
على الركح، تجسّد الممثلة مريم العريض "سيّدة كركوان"، بكل تناقضاتها من قوة وضعف، حب وخسارة، انتصار وهزيمة.. إلى جانبها يقف منتصر بزّاز وعزيز بوسلام ونور عوينات وممثلون آخرون يُحيون شخصيات منسية من تاريخ مدينة اندثرت ولم تُنسَ.
وراء الستار، كان هناك فريق علمي من الباحثين والمختصين في العهد البوني يعمل بجدّ ، ويتكون من خولة بن نور وشادية الطرودي وأمين خماسي. لم يكتف هؤلاء بكتابة مسرحية باللغة البونية بل كانوا يمدّون المخرجين بالتفاصيل الصغيرة لتلك الحقبة على غرار شكل الحلي ونغمات اللغة وألوان الأقمشة...
لأول مرة.. مسرحية باللغة البونية
من قلب التاريخ تنبع أحداث مسرحية "سيدة كركوان" في استلهام للحظة فارقة من الحرب البونيقية الأولى، حين اجتاح القنصلان الرومانيان "لونغوس" و"ريغولوس" مدينة كركوان، تلك الحاضرة الفينيقية الواقعة في الوطن القبلي، والتي لا تزال آثارها صامدة، محفوظة وكأن الزمن اختار أن يتوقف هناك.
على الركح لن تكون "سيدة كركوان" سردا تاريخيا جافا ومملا، بل ستأخذ شكل دراما مسرحية حيّة، كتبتها الأزياء الفينيقية، والأصوات المنبعثة من لغة قديمة، والرقصات المجبولة بملح المتوسط. وقد أخرج العرض اللغة البونية من أدراج التاريخ لتكون لغته فوق الخشبة مع ترجمة فورية للغتين العربية والإنقليزية ليجد المتفرج نفسه، وهو ينتقل من مشهد إلى مشهد، وكأنه في جولة في متحف حيّ.
وإذا كانت الأزياء والموسيقى واللغة قد منحَت العرض أبعادا فنية نادرة، فإنّ المغامرة الإنتاجية على مستوى الموارد التقنية والبشرية لم يكن أقلّ جرأة. ويطمح فريق "سيدة كركوان " إلى تقديم عروض أخرى في المواقع الأثرية على وجه الخصوص.
في انتظار مشاهدة "سيّدة كركوان" يحسب لهذا المشروع المسرحي أنه يستعيد كرامة مدينة حاولوا محوها من الخريطة لكنها لم تُمحَ من الذاكرة، وأنه يُعيد للمرأة التونسية القديمة صوتها وحضورها ونورها، وللتاريخ وجهه الإنساني.