بل إن افتقارنا إلى الجرأة في إدارة الشأن العام هو ما يثقل كاهلنا.
تعيش المؤسسات العمومية في تونس منذ عقود تحت ضغط دائم، في ظل خطاب رسمي يدور في حلقة مفرغة بين خيارين خاطئين: إما التخلي عنها لفائدة القطاع الخاص بدعوى تخفيف الأعباء، أو الإبقاء عليها بأي ثمن، وكأنها عبء ثقيل لا بد من تحمله. ولكن السؤال الحقيقي لم يُطرح: ما الدور الذي نريد لهذه المؤسسات في مشروعنا المجتمعي؟
في غياب نقاش وطني جاد وصريح ومدروس، تتراوح السياسات بين التصريحات المتشنجة والتردد المزمن والمصالح الشخصية والتشبث بمنوال تسييري أكل عليه الدهر وشرب. والنتيجة: وضعية مالية متدهورة، وخدمات عمومية في انحدار مستمر، واقتصاد اجتماعي مهدد في جوهره. القضية لا تتعلق بالأرقام فقط، بل بنموذجنا في التضامن والسيادة.
أرقام مقلقة… بلا رؤية واضحة
الصناديق الاجتماعية في حالة عجز هيكلي، ولا تعيش إلا بدعم من خزينة الدولة. سجلت الصناديق الاجتماعية عجزًا جماعيًا بـ6.7 مليار دينار في سنة 2024.
وبلغت ديون المؤسسات العمومية 19.4 مليار دينار تونسي (أي 14.1 % من الناتج الداخلي الخام).
ورغم خطورة هذه الأرقام، لم تُقدَّم حتى الآن أي خطة إصلاح جدية، ولم يُنجز أي تدقيق مستقل، ولم تُعرض أي استراتيجية شاملة على الرأي العام. لقد أصبحت كلمة “إصلاح” شعارًا يُردد بلا مضمون، وتُستغل سياسيًا أكثر من كونها مشروعًا قابلًا للتنفيذ.
الخصخصة ليست الحل السحري
أمام هذا الجمود، ترتفع بعض الأصوات الداعية إلى الخصخصة الشاملة كحل جذري. لكن التجارب السابقة تدعونا إلى الحذر، فالتفويت – وأحيانًا بثمن بخس – لم يؤدِ إلى تحسين الخدمات أو إلى إنقاذ المالية العمومية.
قطاعات مثل الماء والكهرباء والنقل والصحة والتعليم والاتصالات لا يمكن التعامل معها كسلع تجارية، فهي مرتبطة بحقوق أساسية. وإن تسليمها للسوق هو مغامرة قد تزيد من تعميق الفجوة بين الفئات.
وفي المقابل، فإن استمرار الدعم غير الموجه يفيد في الواقع الطبقات الميسورة ويغذي التهريب، دون أن يصل إلى من هم في حاجة فعلية إليه.
الإصلاح ممكن… إذا توفرت الرؤية
لا نحتاج إلى حلول سحرية بقدر ما نحتاج إلى رؤية واضحة ومسار واقعي يستند إلى خيارات اجتماعية معلنة. ويمكن أن يتأسس هذا المسار على أربعة محاور رئيسية:
• عقد اجتماعي وطني جديد: يجمع الأحزاب السياسية، والنقابات، والقطاع الخاص، والخبراء، والمواطنين، لإعادة التفكير في الحماية الاجتماعية ودور القطاع العمومي.
• تدقيق عمومي مستقل: يُصنّف المؤسسات بين قطاعات استراتيجية لا غنى عنها (الطاقة، الماء، النقل، الصحة، الغذاء…) وأخرى يمكن إعادة هيكلتها أو حتى التفويت فيها بشروط عادلة وشفافة. ويقتضي ذلك امتلاك الشجاعة السياسية لتصفية المؤسسات التي فقدت وظيفتها العمومية، والالتزام بتأهيل تلك التي ما زالت تؤدي أدوارًا أساسية، حتى لا تظلّ موارد الدولة رهينة لمعادلات بيروقراطية أو حسابات ظرفية.
• إصلاح سياسة الدعم: بالانتقال من دعم عام إلى تحويلات مباشرة لفائدة الأسر الفقيرة، عبر منصات رقمية شفافة.
• إصلاح جذري في الحوكمة: يعتمد على التسيير بالأهداف، والتقييم العلني للأداء، والتعيين على أساس الكفاءة، وإشراك حقيقي للمجتمع المدني في مجالس الإدارة.
هذه الخطوط العريضة معروفة، وليست مستحيلة. المطلوب فقط هو الشجاعة السياسية للانطلاق في هذا الإصلاح.
السيادة الحقيقية ليست شعارًا، بل قدرة الدولة على ضمان حقوق مواطنيها في الماء والطاقة والصحة والنقل والتقاعد على قدم المساواة. هنا تكمن قوة الدولة الحديثة.
الإصلاح لا يعني التنازل
لسنا مضطرين للاختيار بين الفوضى والخصخصة. بإمكان المؤسسات العمومية أن تعود لتكون أدوات قوية في خدمة الصالح العام، إذا تم إصلاحها بجرأة ووضوح وعدالة.
هذا القرار سياسي، لكنه أيضًا جماعي. علينا أن نواجه الحقائق بلا مواربة، وأن نتجاوز الشعارات، وأن نخرج من منطق الهروب إلى الأمام.
الإصلاح لا يعني التخلي، بل هو السبيل نحو عدالة اجتماعية فعالة، تكون كلفتها استثمارًا في الاستقرار، لا عبئًا على الميزانية