يعيش على طرفي جرحين: طرف يختنق بالدولارات، وطرف يختنق بالتراب.
عربٌ يبيعون التاريخ بعشرات الآلاف، وعربٌ يبيعون حياتهم بقطعة خبز.
«هارودز»: الكعبة الجديدة للترف
صديقي نصحني بزيارة «هارودز». قالها وكأنني مدعو لعبادة في معبد سماوي، لا مجرد متجر.
«سترى بعينك كيف يصلي الناس لآلهتهم الجديدة»، أضاف مبتسمًا.
ذهبت، بدافع الفضول أكثر من الرغبة، كأنني مراسل يتربص بطقوس عبادة المال.
الخارجية: واجهة مضاءة بمئات آلاف المصابيح. تلمع كالنجوم الصناعية، كأنها تصرخ: “أنتم فقراء!”.
البناية: جدار صامت يقول: “هنا يُقاس الإنسان ببطاقته الائتمانية”.
المدخل: بَوّاب يفتح الباب ببطء احتفالي، كأنك تحظى بإذن دخول جنة خاصة بالدولار فقط.
في الداخل، رائحة العطور الثقيلة تختنق في الهواء، يمتزج بصمت فاخر، كأن الجدران تحتقر الزائر.
وجوه مألوفة: عرب… عرب… ثم عرب.
نساء وجوههن مشدودة بالبوتوكس أكثر مما صقلتهن الحياة، أقنعة بلا روح.
رجال يضعون الذهب على أكتافهم كما يضع الجندي رتبته، يمشون وكأن الأرض سجادة حمراء لأموالهم فقط.
الأسعار مذهلة: ملعقة بـ5000 جنيه، حقيبة «شانيل» كأنها قطعة من القمر.
تتساءل: كم ينفقون هنا في ساعة واحدة؟ متى قرأوا كتابًا؟ متى رأوا تمثالًا؟
ثم تهدأ وتقول: إنها أموالهم. الحرية.
لكن السؤال الأكبر يظل: هل ينامون بلا شعور بالذنب؟ أم أن الدولار يخدر الضمير؟
«هارودز» صار الكعبة الجديدة لعرب النفط، بشر خارج التاريخ والواقع.
يطوفون حول المعبد الجديد، لا طلبًا للمغفرة، بل لاقتناء حقيبة محدودة الإصدار.
يسجدون على موائد العطور، يقدّمون الذهب كقرابين، وينتظرون الخلاص في موسم التخفيضات.
غزة: الوجه الآخر للأمة
ثم تنهار الصورة فجأة. بين ابتسامة مطلية بالذهب ووجه مملوء بالبوتوكس، تخترق ذهني صورة أطفال غزة.
هم أيضًا عرب، لكنهم يمشون حفاة على الركام، يحملون الماء في زجاجات مهترئة، ويرتدون ثيابًا ممزقة مغطاة بالغبار.
أحدهم يمسك دمية مفقودة العينين، ويبتسم بحزن.
هناك تُقصف البيوت، هنا تُقصف القيم. هناك يموت الأطفال، هنا تموت الكرامة.
بين «هارودز» وغزة لا تمتد مسافة، بل هاوية أخلاقية حفرتها الخيانة، سقتها النفط، وزينها صمت العالم.
زيارة المتحف البريطاني: الدرس الآسيوي
في اليوم التالي، قبل العودة، زرت المتحف البريطاني لمشاهدة كنوز آشور وبلاد النهرين. الدخول مجاني.
ألاف الزوار من الشرق و من الغرب و خصوصا من آسيا: يابانيون، كوريون، صينيون… يبحثون عن التاريخ، عن المعرفة، عن أثر لا يُشترى بالمال.
العرب غائبون. لم أر وجهًا عربيًا واحدًا بين التماثيل، بالرغم أن التاريخ و الآثار لهم.
هناك، بين النقوش والتماثيل، تعلمت درسًا: العالم يعرف قيمة ما لا يُشترى، ونحن نشتري الذل والذهب معًا.
الواقع العربي اليوم
ذلك هو العالم العربي اليوم: نصفه يغرق في العطور، ونصفه يغرق في الدم.
نصفه فقد المعنى، ونصفه فقد الحياة. هؤلاء يختنقون من التخمة، وأولئك من الحصار.
ومع ذلك، ما زلنا نردد أننا أمة واحدة.
أمة على طرفَي جرح: طرف يشتري النسيان، وطرف تُشترى دماؤه في صفقات الغاز والسلاح.
وبينهما فراغ بحجم العالم، مليء بفواتير الفخر الزائف.
وفي النهاية، يبقى السؤال معلقًا: هل يمكن أن يعيش العرب على طرفَي الجرح نفسه، واحد يختنق بالدولار وآخر بالتراب، ويظلّون يعتبرون أنفسهم أمة واحدة؟
ربما المأساة الحقيقية: لسنا أمة واحدة، والفارق بين الحياة والموت، بين الضمير والنسيان، قد لا يهمّ البعض… إذا كان الدولار في جيبهم.