ثمانون عاماً على تأسيس "معبد القانون الدولي".
الأمم المتحدة.
ويلٌ لم ن صدّقها.
ثمانية عقود مضت منذ أن تخلّقت منظمة الأمم المتحدة من رحم مأساة حربٍ أتت على الأخضر واليابس. وُلدت حاملةً وعداً مقدّساً: أن تكون حارساً جديداً للسلام والعدالة والكرامة الإنسانية.
لكننا نقف اليوم، بعد ثمانين عاماً، أمام عالمٍ يعيد إنتاج ذات المآسي التي كان من المفترض أن تمحوها هذه المنظمة: حروبٌ لا تنتهي، احتلالاتٌ تُبرَّر، وجرائمٌ تُرتكب باسم «الأمن».
لقد تحوّلت المؤسسة التي وُلدت من رحم المأساة إلى شاهدةٍ صامتة على تكرارها.
ليس هذا العجز مجرد صدفة عابرة، بل هو عجزٌ مبرمجٌ في جينات النظام الأممي نفسه.
لقد صُمّم هذا النظام ليمنع الحرب بين القوى العظمى، فسمح لها باحتكار مفهوم السلم، وأعطاها الحق في أن تتصرّف بالعالم كما تشاء، عبر أداة واحدة تقتل قرارات الشعوب قبل أن تولد: الفيتو.
الاستعمار في قلب الميثاق
حين وُلدت الأمم المتحدة، كان نصف العالم لا يزال تحت الاستعمار.
كانت الدول التي صاغت ميثاق العدالة هي ذاتها التي كانت تحتلّ شعوب إفريقيا وآسيا والعالم العربي،
وتشنّ الحروب باسم «التمدين».
لقد بُني المعبد على تناقضٍ قاتل:
أن تكون الدول الاستعمارية نفسها هي من يحدّد مفهوم السيادة، وأن يُعهد بحماية المستضعفين إلى أيدي مضطهديهم.
ومنذ ذلك الحين، ظلّت الأمم المتحدة سجينة هذا التناقض الأصلي،
تحمي القانون حين يخدم الأقوياء، وتتجاهله حين يهدّد مصالحهم.
مجلس الأمن: حارس النظام وسجّانه
الخطيئة الأولى التي وُلدت بها الأمم المتحدة هي أنها أسّست على مبدأ المساواة بين الدول، ثم سلّمت مصير البشرية إلى خمسٍ منها فقط:
الولايات المتحدة، روسيا، الصين، فرنسا، وبريطانيا.
هؤلاء هم حراس النظام، وسجّانوه في آنٍ واحد.
لقد مُنحوا حق النقض (الفيتو)، ليس لحماية العدالة كما يُزعم، بل لحماية مصالحهم حين تتعارض تلك المصالح مع العدل.
ومنذ ذلك اليوم، صار القانون الدولي كمن يمشي على عكّاز الفيتو:
يتقدّم خطوة في النصوص، ويتراجع عشر خطوات في الواقع.
في اللحظة التي تُقصف فيها غزة، يُرفع الفيتو الأميركي كجدارٍ يحجب العدالة.
وحين تُحتل أوكرانيا، ترفع روسيا والصين أيديهما دفاعاً عن «السيادة» بطريقة انتقائية.
وحين تُسحق الشعوب في ميانمار أو سوريا أو اليمن، تكتفي المنظمة بالأسف، ثم بالصمت، ثم بالنسيان الأبدي.
لقد تحوّل مجلس الأمن من منبرٍ للحقّ إلى مرآةٍ تعكس بصدق موازين القوة لا موازين العدل.
إنه مجلسٌ يملك أن يُعلن الحرب على الضعيف، لكنه لا يملك إعلان السلام على القوي.
القانون الدولي: نصّ نبيل… وسلطة غائبة
يشبه القانون الدولي اليوم كتاباً مقدساً منسيّاً:
كل آية فيه تدعو إلى المساواة والسيادة، لكن لا أحد يؤمن بها حين يُختبر الإيمان.
القضية الفلسطينية هي الدليل الأوضح والأكثر فصاحة على هذا العجز البنيوي.
منذ عام 1947 والعالم يكتب القرارات، ويعد بالسلام، ويترك الدم يسيل في الممرات ذاتها.
قراراتٌ لا تُحصى تُتلى على المنابر ثم تُدفن في الأدراج: (181، 194، 242، 338، 2334...),
أصبحت مجرّد أرقامٍ بلا ذاكرة ولا قوة تنفيذ.
لم يُنتهك القانون الدولي في فلسطين وحسب؛ بل كُشف عجزه بالكامل.
فهو بلا محكمة قادرة على التنفيذ، وبلا ذراع تُلزم الجناة، وبلا ضمير سياسي يحميه من التواطؤ الصريح.
العدالة فيه كجملة معلّقة على شرطٍ سياسي لا يتحقّق أبداً.
الجنوب العالمي يتمرّد
لكن الجنوب لم يعُد صامت
فمن إفريقيا إلى أميركا اللاتينية، ومن آسيا إلى الوطن العربي،
تتشكّل اليوم حركة تمردٍ متزايدة على هذا النظام غير العادل.
دول الجنوب لم تعُد تقبل أن تُدار شؤون العالم بفيتو من خمس دول تُنصّب نفسها أوصياء على الإنسانية.
لقد جاءت غزة لتكون المرآة الأخيرة:
مرآةٌ كشفت أمام الجميع هذا التواطؤ العاري، وهذا الكيل بمكيالين الذي لم يعُد يُحتمل.
ومن رحم الدم خرجت صحوة الجنوب:
لن يكون الصمت بعد اليوم فضيلة،
ولا الخضوع سياسة،
ولا العدالة امتيازاً شمالياً.
هكذا صار الضمير الدولي مجرّد ميزانٍ مائل، تُقاس فيه العدالة بوزن المصالح، لا بوزن الحقّ.
وربما، للمفارقة، يجب أن نمنح دونالد ترامب فضيلةً واحدة: أنه مارس الإمبريالية بلا قناع.
ففي عهده، لم تعد القوة تتزيّن بأقنعة الأخلاق، ولا تتخفّى وراء شعارات القانون الدولي و البلوماس.
لقد تكلّم بلغةٍ عارية، فظّة، لا تعرف الحياء ولا الخداع، لغةٍ كشفت لنا ما كان الآخرون يُخفونه تحت رداء “الشرعية الدولية”.
لقد مارس الاستبداد العالمي كما هو: فظّاً، متغطرساً، صادقاً في كراهيته للعدالة.
ولعلّ في هذا الصدق الوقح ما قد يُوقظ الضمائر، لأنّ الحقيقة حين تُقال بوقاحة، تصدم أكثر مما تُخدّر.
الشيخوخة الأممية: مؤسسةٌ بلا روح ورهينة الابتزاز
اليوم، تبدو الأمم المتحدة كجسدٍ متعبٍ يحمل تاريخاً أكثر مما يحمل أملاً.
ميزانياتها تتآكل، ووكالاتها تتسوّل التمويل لتواصل عملها،
بينما يتقاسم الأقوياء إدارة العالم خارج أسوارها.
لقد تحوّلت المساهمات المالية "الطوعية" للدول الكبرى إلى أدوات ابتزازٍ سياسي مكشوف:
من يدفع، يقرّر؛ ومن لا يدفع، يُهمَّش.
وهكذا صار العمل الإغاثيّ سياسياً، والإنسانيّ مشروطاً، والحياد مجرّد شعار فارغ.
الأمين العام نفسه – من بطرس غالي إلى أنطونيو غوتيريش – لم يعد سوى صوتٍ أخلاقي يصرخ في صحراء المصالح.
يصرخ من أجل غزة، يحذّر من المجاعة في السودان، يكتب تقارير عن الكارثة البيئية،
ثم يُقابل بالصمت ذاته من أصحاب القرار.
الأمم المتحدة ما عادت تصنع التاريخ، بل تكتبه بحبرٍ باهتٍ على هوامشه.
إصلاحٌ أو انقراض
القانون بلا سياسة عادلة يتحوّل إلى طقوسٍ شكليةٍ فارغة،
والسياسة بلا قانون تتحوّل إلى غابةٍ تأكل فيها الذئاب بعضها.
وهذا بالضبط ما نعيشه اليوم.
إن لم يحدث إصلاحٌ حقيقي، ستتحوّل الأمم المتحدة إلى متحفٍ للنيّة الطيّبة، لا مؤسسةٍ للعدل.
إذا أرادت المنظمة أن تبقى ذات صلة، فعليها أن تُعيد كتابة نفسها من جديد.
الإصلاح لم يعد ترفاً، بل شرطاً للبقاء:
إصلاح مجلس الأمن: الفيتو لم يعد رمزاً للحكمة، بل أصبح شهادة وفاةٍ للعدالة. إلغاؤه، أو تقييده على الأقل، هو البداية الوحيدة لأيّ تجديد حقيقي.
تمكين الجمعية العامة: هي الصوت الحقيقي للأمم، ويجب أن تملك صلاحيات تشريعية تُلزم، لا مجرد توصيات تُهمَل.
إنشاء آليةٍ تنفيذية للقرارات الدولية: فالقانون بلا تنفيذ محضُ أدبٍ سياسي. يجب أن تُمنح محكمة العدل الدولية ذراعاً تُنفِّذ أحكامها، لا أن تبقى أسيرة الورق.
العدالة أو الهمجية: لا خيار ثالث
في عامها الثمانين، وصلت الأمم المتحدة إلى اللحظة الحاسمة:
إمّا أن تعود إلى روح ميثاقها الأول الذي وُقّع على رماد الحرب،
أو تترك مكانها لتاريخٍ جديد يُكتب بالدم لا بالحبر.
من فلسطين إلى رواندا، ومن العراق إلى أوكرانيا، الدرس واحد:
حين يصمت القانون، تتكلّم البربرية.
المطلوب ليس هدم الأمم المتحدة، بل أن نُعيد إنسانها إليها؛
أن نُحرّر الكونية من مركزيتها الغربية،
ونزرع فيها صوت الجنوب،
ونُدخل إليها ذاكرة المقهورين لا فقط رواية المنتصرين.
ثمانون عاماً والأمم المتحدة تراقب العالم من خلف الزجاج.
آن لها أن تكسره، وتخرج منه إلى الواقع,
قبل أن يُسدل التاريخ الستار عليها كواحدةٍ من أعظم الأفكار الإنسانية التي ماتت واقفة.