كهمسة شاعر في أذن جمهورية وليدة: “دعوا الإيمان وشأنه، واتركوا الضمائر تتنفس كما تشاء”. كانت وعدًا حرًا، لا يُحبس في قوانين، ولا يُقاد إلى المخافر.
ثم تغيّر كل شيء.
ربما لم تُغفر أبدًا خسارة الجزائر. ربما في فرنسا بقيت الهزيمة عالقة تحت جلد الجمهورية، كندبة لا تُرى لكنها تؤلم مع أول مطر. وربما جاءت حرب غزّة الأخيرة لتُخرج ما كان يُخفى: لم تكن فقط حربًا هناك، بل ذريعة جاهزة لإعلان معركة قديمة هنا، ضد الإسلام والمسلمين، في هواءٍ مشبع بالريبة. وكأن بعض الصحف أبرمت صفقة: لا توازن بلا عدو، ولا وحدة بلا فزّاعة.
ومع الوقت، تاهت المعاني: هل نحن أمام قضية دين؟ أم هجرة؟ أم أمن؟ أم مجرد حنين خفيّ لزمنٍ استعماري كانت فيه “اليد العليا” لا تُسأل؟
في الغرب اليوم، لا يكفي للمسلم أن يكون مواطنًا. بل يجب أن يكون مواطنًا قابلاً للعرض: أن يمشي على أطراف إيمانه، أن يبتسم باعتدال، أن يمارس دينه شريطة ألا يُخِلّ بـ”جمالية” النشرة المسائية.
الحجاب؟ صار راية تخرق سكينة الشارع إذًا أنتِ غريبة في وطنك. تفتح مطعم كباب؟ خطر على الأمن القومي. المنتجات الحلال؟ خنادق ثقافية. والمساجد؟ قلاع لا تُفتح إلا بتصاريح. بينما يُصوّت الإنجيليون على طرد الشياطين، تُشرَّع القوانين حسب المسافة بين المعصم والكمّ.
وحين يصدر تقرير جديد عن “الإخوان المسلمين”، يُقدَّم كما لو أن فرنسا تواجه “الهيدرا” – وحشًا أسطوريًا تنمو له رؤوس كلما قُطعت واحدة. بينما الواقع لا يتعدّى كوابيس محلية، تغذّيها شاشات لم تنسَ بعد نشوة التحكم حين كان المتوسط بحرًا للهيمنة.
هكذا تتحول الدولة إلى خيّاطٍ للضمائر: تُفصّل الإسلام على مقاس مخاوفها، تقصّ منه ما لا يناسب المرآة، وتخيطه بلون رمادي لا يزعج الذوق العام. إسلام بلا مطالب، بلا ظلّ، بلا ذاكرة. إسلام لا يُذكّر بشيء بدأ من الموانئ، وانتهى في مقبرة استعمارية.
وحين حاولت الدولة “تصنيع” أئمة محلّيين، نسيت بناء المصنع. لا جامعات، لا تمويل، لا رؤية. فقط الشك. دائمًا الشك. لأن النظرة الاستعمارية القديمة لا ترى في المسلم المحلي إلا صدىً لـ”الخطر الخارجي”، مهما كان قريبًا ومألوفًا.
ومع هوس الواجهة، وُلد “إسلام الأنوار” كمنتج تلفزيوني: لا يُصلّى فيه، بل يُبتسم به. وجاء الشلغومي بدور النبي المُريح، صديق الوزراء، عدو المقاطعة، مرآة لا تعكس شيئًا إلا رغبة الجمهورية في ألا ترى شيئًا.
لكنّ السبب ليس الخوف من الإرهاب، بل من الحقيقة: أن التعدّد لم يكن يومًا خطرًا، بل مرآةً تعكس هشاشتنا، وذاكرتنا المُتعبة، وذنبًا لم يُسمَّ قط، فتحوّل إلى عداء.
وفي النهاية، لن تصنع الجمهورية مسلمًا مثاليًا… بل غريبًا مثاليًا، في وطنٍ لا يعترف به إلا إذا أنكر ذاته. غريبٌ في لغته، في صلاته، في مطعمه، في مرآته. غريبٌ لأنّه لم يُخلَق ليرضي الصورة، بل ليكون نفسه.