مونودرام "البحث عن الياسمين" لناصر العكرمي في عرضه الاول: المسرح سؤال متواصل عن الحق في وطن يحترم ابنائه

يحاول المثقف ان يكون دائما صوت مجتمعه، يستعمل كل الياته ليصنع لنفسه مساحة من الحرية

وعلى الخشبة يتحرر الممثل من قيود الخارج ويعيد بناء الوطن كما يراه، ينتقل من قضية الى اخرى زاده حرية التعبير التي تمنحها الخشبة والقدرة على النقد وتفتيت البناء الجماعي وإعادة تشكيله حسب رؤية فنية تواقة لكل اشكال الحرية، هكذا هو مونودرام "البحث عن الياسمين" اخراج وتمثيل ناصر العكرمي.

واعتمدت المسرحية على مونولوجات داخلية وحوارات رمزية مع البحر وشخصيات غير بشرية لنقل رحلة الهروب من الوطن الى منفى ربما يضمن انسانية الانسان، هي رحلة لاكتشاف الذات وإيجاد المعنى والعمل كوروغرافيا قيس بولعراس وسينوغرافيا رياض التوتي وتقني موسيقى ذهبي مباركي وملابس حنان الرياحي.

يحمل الانسان وطنه اينما رحل، الوطن فكرة تختلف من انسان الى اخر وكلّ يشكل وطنه حسب معارفه ورغبته جد الخاصة، كل يحلم بوطن يشبهه، الوطن مساحة للحرية، للعلم للتمرد وللنقد، والرحيل منه جزء من فكرة ايجاد وطن يشبه الذات المفكرة هكذا ودفعة واحدة تقرر الشخصية الاساسية في المسرحية بناء وطن يشبهها.

شخصية بصدد التحضير لبحث الدكتوراه وبعد سنوات طويلة من التحصيل العلمي، تقرر الهجرة الى ذاتها والبحث عن معاني وقيم انسانية قد تساعد الشعب للوصول الى بر الامان السياسي والاجتماعي والانساني والحقوقي، فتهاجر الشخصية الى البحر، زادها اوراقها وابحاثها وجهاز مسجل للاستماع الى الاغاني وكرسي صغير، القليل لوازم الرحلة التي ستكون فكرية ووجدانية بالاساس ففي البحث عن الوطن سيجد الهارب حكايات ابناء وطنه جميعها على قارعة الموت والبحر.
"البحث عن الياسمين" عنوان المونودراما، عمل يجسد فيه الممثل ناصر العكرمي اكثر من شخصية رجالية ونسائية، يمر من شخصية الى اخرى حسب سياق الحكاية والمشهد المقدم ثم يعود الى الشخصية الاصلية للباحث الهارب من الضوضاء الى الهدوء، يهرب الى البحر، هناك حيث اعتقد انّ الصمت مطبق اكتشف حياة اخرى، فالبحر تهرب اليه احلام الخريجين الباحثين عن مستقبل افضل في الضفة الاخرى للمتوسط.
البحر اكل الاحلام المؤجلة والامال المسروقة بسبب ارتفاع البطالة وتراجع فرص العمل بالاضافة الى المنظومة الامنية القاسية والسجون المشرعة ابوابها للجميع، جميعها دفعت بالشباب الى الارتماء في حضن البحر امتداده، حتى انقلبت الصورة وأصبح السمك يصطاد البشر لا العكس كما يقول نص العمل.
اضاءة خافتة تضاء تدريجيا ليجد الجمهور الشخصية تحمل اثقالها على ظهرها، تتحرك ببطئ وكانها تحمل وزر العالم، دقائق من الصمت، والرقص وكأنّ بالشخصية تشاغب ذاتها وتحاول اكتشاف الفضاء قبل ان تبدأ سردية البوح بكل ما يثقلها طيلة عقود، ينتقل الممثل من شخصية الى اخرى ويحاول ان يقدم لكل واحدة مساحتها وطريقة النطق والحركة وحتى بعض الالفاظ الخاصة بها، نجح الممثل في بعضها واضاع ملامح بعض الشخصيات الاخرى ربما لكثرتها في المشهد الواحد حدّ السقوط في التكرار احيانا،كما اعطى مساحة للجسد ليعبر، فكانت الرقصات وتعبيرات الجسد في الكثير من الاحيان اشد صدقا من النص المنطوق.
مونودرام البحث عن الياسمين هو رحلة هجرة وجدانية وفكرية، محاولة للقطيعة مع الضجيج لإيجاد الذات وتامّل الواقع فتتحول الرحلة الى بحث مجتمعي ومغامرة تعيشها الشخصية وهي تتجوّل بين طبقات الناس ومختلف مكونات المجتمع التونسي وكذلك فترات سياسية مختلفة بداية من الفترة البورقيبية وصولا الى الراهن، وكل مرت الشخصية بين هذه الازمان عايشت الفوضى واللامعقول في الممارسات السياسية والانتهاكات لحقوقية والفوضى المجتمعية، فلكل فترة سياسية فوضاها، وان كانت الفترات السابقة تتميز بالمخرج الاوحد والقائد الواحد ففترات ما بعد الثورة جميعها تشبه فيلما دون مخرج وانفلات يصعب توصيفه كما تقول الشخصية في خطابها للجمهور.
"البحث عن الياسمين" رحلة وجودية وفكرية هي رحلة تونسي مثقف حلم بوطن افضل، رحلة انسان اجتهد لسنوات الطويلة فلم يجن غير التعب والحجود من منظومة تشغيلية جد ظالمة، رحلة في بلد الياسمين الذي ملئ برائحة القمامة وتزين بالفوضى عوض باقات الياسميين وورود الامل، جولة في وطن ثار ابنائه لاجل الشغل والحرية والكرامة، فأصبحت الحرية مجرد مجال وبات التشغيل من المطالب المستحيلة اما الكرامة فهاجرت بدورها مع الشباب المهاجر، جولة مثقف يحمل اوجاع وطنه في بقايا بلده ومحاولة لنقده وإبراز علّاته علّ الشعب يستفيق ويعيد للبلد جماله وكرامته.
المونودرام قام على تشريح العديد من مشاكل ومشاغل التونسي، تحدث عن معاناة النساء العاملات، وصراع النساء لافتكاك حقوقهنّ في مجتمعات ذكورية، تطرق الى قوة المرأة التونسية اثناء محاولة الاخوان تدجينها، تجوّل بين مشاكل تهمّ الطفل بسبب المنظومة التدريسية وكمّ الدروس لمثقل لكاهل اطفال يريدون اللعب وتشكيل أحلامهم في المسرحية يتشارك الممثل مع الجمهور العديد من الهموم، فكل يبحث عن وطنه وكلّ يصنع الوطن كما يشاء فقط يجب ان يكون حرا يقبل كل اشكال لاختلاف.
صنعت االسينوغرافيا والموسيقى جمالية للعرض، فالإضاءة الاحتفالية رغم قتامة الحكاية كانت رديف للنجاح وتوظيف الاغاني التونسية كانت بمثابة رحلة العودة الدائمة الى الاصل، فالخشبة دائما مساحة لعودة الانسان الى روحه وذاكرته وعلى الخشبة يصبح البوح مقدس.

خلال هذه العزلة، يعيش الشاب نوعًا من الهجرة الرمزية، حيث يتأمل الواقع ويتواصل مع البحر ككائن رمزي يشكل صدى لصراعاته الداخلية، ومرآةً لأشواقه. يبني قاربًا صغيرًا، يصطاد، ويسجل مذكراته وأفكاره، مستعينًا بالأغاني الشعبية والرقصات الرمزية ليكسر رتابة الوحدة. لكن المفارقة تحدث عندما يكتشف أن المكان الذي اختاره للتأمل هو نقطة عبور غير شرعي للمهاجرين، ما يدفعه إلى مواجهة سؤال وجودي: من هو المهاجر الحقيقي؟ وهل الهجرة هي الابتعاد عن الوطن أم عن الذات؟

المشاركة في هذا المقال

Leave a comment

Make sure you enter the (*) required information where indicated. HTML code is not allowed.

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115