كما سجلت الصادرات مع موفى شهر فيفري 2025 انخفاضا في القيمة بنسبة 29 % محققة ارتفاعا طفيفا في الواردات بنسبة 1 % وهو ما يدفع إلى التحول الأكيد إلى إنتاج الطاقات البديلة للخروج من أزمة الطاقة التي تتعمق دريجيا، والتنفيذ السريع لبرنامج خفض انبعاث الكربون وتحقيق الأمن الطاقي، عبر توليد 35% من الكهرباء من مصادر متجددة بحلول عام 2030 و50% بحلول عام 2050
فهل يستجيب الواقع مع المرتقب؟ وهل أن الاستثمار في مجال الطاقات البديلة قادر على تحقيق النقلة النوعية والاكتفاء الذاتي وماهي الفرص والتحديات؟ وما الذي يجب القيام به للنجاح في الانتقال النظيف؟
في عالم يواجه تحديات مناخية متصاعدة وتقلبات حادة في أسعار الطاقة، لم يعد الانتقال الطاقي ترفاً أو خياراً مؤجلاً، بل بات ضرورة وجودية تفرضها الظروف البيئية والاقتصادية والجيوسياسية، من الصين إلى أوروبا، ومن المغرب إلى دول الخليج، حيث تخوض الدول سباقاً محموماً للانتقال من الوقود الأحفوري إلى الطاقات المتجددة، لتحقيق سيادتها وتوازنها الطاقي وأصبح التحول نحو الطاقة منخفضة الكربون يتصدر أولويات جداول أعمال السياسات العالمية وفي هذا السياق العالمي المتغير، تقف تونس أمام فرصة تاريخية لإعادة تشكيل منظومتها الطاقية وبناء مستقبل أكثر استقلالاً واستدامة في وقت تعتمد فيه على الاستيراد من الخارج لتلبية أكثر من نصف احتياجاتها الطاقية، فيما تشهد أسعار النفط والغاز ارتفاعا وسط مخاوف من اضطراب الإمدادات في ظل التوترات الجيوسياسية في العالم خاصة مع تفاقم العجز التجاري الطاقي في تونس الذي أصبح يثير الجدل في الأوساط الاقتصادية والمالية..
تخفيف الضغط
خططت تونس في إطار الإستراتيجية الوطنية الطاقية إلى إنتاج 35% من الكهرباء من الطاقات المتجددة في أفق سنة 2030 والتخفيض من انبعاث الكربون في حدود 46 % وهو ما من شأنه أن يساعد في تخفيف الضغط على الميزان الطاقي ويحقق توازنا اقتصاديا،خاصة في ظل انخفاض الإنتاج الطاقي المحلي جراء تراجع الحقول النفطية في البلاد، وتقلص رخص الاستكشاف من 50 رخصة سنة 2010 إلى 16 رخصة حاليا ، ومغادرة بعض الشركات البترولية التي أنهت تعهداتها مع تونس، مقابل ارتفاع استهلاك المواد البترولية بنسبة 4% في شهر فيفري 2025 وازدياد الطلب على البنزين بنسبة 5 %
يبقى الانتقال الطاقي عملية استعجالية تشمل تغييراً جذرياً في طريقة إنتاج واستهلاك الطاقة، من خلال التخلي التدريجي عن المصادر التقليدية النفط والغاز لصالح مصادر نظيفة ومتجددة كالشمس والرياح والطاقة الجوفية وهو ضرورة أمنية واقتصادية في إطار التخفيض من كلفة دعم الطاقة التي تؤثر كثيرا على ميزانية الدولة، لكن هذا الانتقال لا يقتصر على الجانب التكنولوجي، بل يشمل أبعاداً اقتصادية، اجتماعية، وبيئية، ويستوجب تغييراً في العقليات والسلوكيات، من السياسات الوطنية إلى السلوك الفردي.
التحديات والفرص
تواجه تونس منذ سنوات عجزاً طاقياً متزايداً، نتيجة تراجع الإنتاج المحلي من المحروقات وارتفاع الاستهلاك،وقد بلغت نسبة التبعية الطاقية أكثر من 50%، وهو ما يمثل عبئاً ثقيلاً على المالية العمومية، خاصة في ظل ارتفاع أسعار الطاقة في السوق العالمية، ورغم أهمية منظومة الدعم الطاقي اجتماعياً، فإنها تثقل كاهل الدولة وتُعيق الاستثمار في البدائل النظيفة، لكن في المقابل، تملك تونس موارد هائلة غير مستغلة، وقد أكد البنك الدولي في تقارير سابقة انه و على الرغم من التحديات الحاليّة، فهناك فرص كبيرة أمام تونس لإحداث تحول وتقوية اقتصادها، كما إنه من خلال الاستثمارات الإستراتيجية، لاسيما في مجال الطاقة المتجددة، يمكن لتونس أن تعزز بشكل كبير قدرتها على الصمود والاستدامة الاقتصادية، مؤكدا الالتزام بمساعدة تونس على الاستفادة من مواردها الغنية من الطاقة المتجددة.
تعتبر تونس من بين أكثر الدول التي تمتاز بمناخ يساعد على الاستفادة من الطاقة البديلة لعل أبرزها الطاقة الشمسية على اعتبار ان البلاد تتمتع بأكثر من 3000 ساعة إشعاع شمسي سنوياً، علاوة على وجود مناطق ذات إمكانيات قوية لطاقة الرياح، خاصة بالشمال الغربي والجنوب، وكفاءات علمية وتكنولوجية يمكن تسخيرها لتطوير هذا القطاع، علاوة على استكشاف إمكانيات الغاز الصخري ورغم ان الإستراتيجية الوطنية للانتقال الطاقي تسعى إلى أن تمثل الطاقات المتجددة 30% من إنتاج الكهرباء بحلول 2030، لكن الواقع التنفيذي يشير إلى بطء في الإنجاز وتعقيدات بيروقراطية تتطلب إصلاحاً جذرياً.
التحولات العالمية في الطاقة
يعيد العالم اليوم رسم خارطته الطاقية حيث يراهن الاتحاد الأوروبي على الحياد الكربوني في أفق 2050، بينما تستثمر الصين في الهيدروجين الأخضر وتقنيات التخزين المتطورة والنقل الكهربائي وتصدير تقنياتها إلى دول نامية وينجح المغرب في إطلاق أحد أكبر مشاريع الطاقة الشمسية في العالم مشروع "نور" ، والذي أصبح نموذجاً في التموقع الطاقي الذكي، وتتألق ألمانيا في الانتقال الطاقي ودعم برامج تقليص الاعتماد على الفحم والطاقة النووية، وتستثمر الدانمرك في طاقة الرياح وتصدير التكنولوجيا والأنظمة الخاصة بتوربينات الرياح وتغطي أكثر من 50% من حاجاتها الكهربائية من الرياح فقط، و الإمارات التي أطلقت مدينة "مصدر" كنموذج لمدينة مستدامة خالية من الانبعاثات المضرة بالبيئة والأفراد، تبقى تونس من بين الدول المطالبة بتسريع وتيرة انتقالها إلى بدائل نظيفة .
في الواقع فان هذه الديناميكية العالمية تفتح آفاقاً جديدة لتونس، ليس فقط لتغطية حاجاتها الداخلية، بل لتكون جسراً طاقياً بين إفريقيا وأوروبا، مستفيدة من موقعها الجغرافي المميز وشبكات الربط الممكنة مع الشمال وهذا الانتقال الطاقي مهم لتونس لضمان السيادة الوطنية و تقليص التبعية للخارج وضمان أمن الطاقة ثم لإنعاش الاقتصاد من خلال خلق مواطن شغل خضراء، وتحفيز الاستثمار والبحث العلمي علاوة على حماية البيئة بفضل تقليص الانبعاثات وتحقيق التزامات تونس الدولية المناخية وتحسين العدالة الاجتماعية بالاعتماد على ترشيد الدعم وتوجيهه للفئات الهشة.
النجاح في الانتقال الطاقي
إن نجاح تونس في دخول نادي الدول المنتجة للطاقة النظيفة يمرّ حتماً عبر إصلاحات شجاعة ورؤية إستراتيجية متكاملة، ويكمن ذلك أولاً في تحرير الاستثمار من قبضة البيروقراطية، عبر تبسيط الإجراءات وتحديث الإطار القانوني المنظم للطاقات المتجددة. كما يتطلب إعادة هيكلة منظومة الدعم تدريجياً لتوجيهه نحو الفئات الهشة وتمويل المشاريع المستدامة و تشجيع القطاع الخاص على دخول السوق الطاقية من أوسع أبوابه، من خلال توفير حوافز جبائية وتمويلات مرنة، مع تمكين المواطنين من إنتاج وبيع الكهرباء الشمسية عبر الشبكة الوطنية ولا يمكن لأي انتقال أن ينجح دون شبكة كهرباء ذكية ومتطورة تستوعب الطاقات المتجددة وتضمن استقرار التوزيع عبر رقمنة المعاملات الإدارية وتشجيع الشراكات بين القطاعين العام والخاص.
أما على المدى المتوسط، فإن دعم البحث العلمي وتكوين جيل جديد من الكفاءات في مجالات الطاقة النظيفة سيكونان مفتاحاً لضمان الاستقلال التكنولوجي، فيما يبقى التمويل الدولي أداة ضرورية يجب توظيفها بفعالية عبر شراكات ذكية مع أوروبا والمؤسسات المالية الكبرى، وأخيرا فإن إشراك المواطن والمجتمع المدني في هذا المسار هو الضمان الحقيقي لإنجاحه، عبر التوعية، الشفافية، والعدالة الاجتماعية.
الانتقال الطاقي هو مشروع كوني، لا مشروع وزارة أو حكومة منفردة و هو استثمار في المستقبل، في استقلال تونس الاقتصادي، وفي كرامة أجيالها القادمة وهو فرصة لبناء نموذج طاقي جديد يضع تونس في مصافّ الدول الرائدة في التنمية المستدامة، فهل نغتنم هذه الفرصة التاريخية... أم نواصل الارتهان لمعادلات الماضي؟