روبورتاج :جولة في مقر "الكريديف": ذاكرة حيّة للمرأة... ومرآة لتونس المتجدّدة !

من علياء شرفات مقر "الكريديف" حيث تلتقي أشعة الشمس بدفء المعرفة، تطلّ تونس بروحها الحرّة، وتلوّح المرأة بيد النضال والأمل...

هذا المبنى الشامخ في كبرياء تماما كأحرار النساء، ليس مجرد جدران ومكاتب... بل هو رحم ذاكرة، تحفظ أسماء نساء كتبت فصولا من البطولة الوطنية. كلّ ممر فيه يفضي إلى حكاية، وكل حكاية تسكنها امرأة... أم، مناضلة، شاعرة، عاملة، طالبة، كلّهن كنّ هنا، وهنّ ما يزلن. في الكريديف، لا تنطفئ الأسئلة، ولا تنتهي الحكايات. هو أرشيف يحفظ ما قد ننساه، وأصوات تهمس في الأذن: "نحن هنا، وسنظلّ".

في هدوء حيّ المنار بالعاصمة، يبرز مبنى أنيق وعتيق شامخا كمنارة فكر، وكمرآة تعكس وجه المرأة التونسية في نضالها، في حضورها، في صمتها وصوتها. إنه "الكريديف" (مركز البحوث والدراسات والتوثيق والإعلام حول المرأة). تحت إشراف وزارة الأسرة والمرأة والطفولة وكبار السنّ، تحوّل "الكرديف" إلى بيت خبرة وطني يحتضن مئات الدراسات، الوثائق، والإنتاجات الفكرية والإعلامية التي تلامس جوهر قضايا المرأة والنوع الاجتماعي.

مكتبة الطاهر الحدّاد: مرجع نوعي في النوع الاجتماعي

عند مدخل الكريديف، يستقبلك عبق الورق القديم الممزوج برائحة الحبر الطازج، وكأنّك تخطو إلى زمن آخر، زمن تصير فيه الكتب شوارع، والعناوين نوافذ مشرّعة على المدى البعيد. في مقر الكريديف تتربّع "المكتبة المتخصصة" كجوهرة ثمينة، تنثر ضوءها على عشّاق الكلمة وروّاد المعنى، حيث الأوراق تسرد حكاياتها للزائرين، والرفوف تهمس بالأسرار لمن يصغي. إنّ مكتبة الكريديف ليست فقط مكتبة وانتهى الموضوع. إنّها ذاكرة تحتفظ بسيرالأوّلين وبوابة نسجها كتّاب الحاضر بأحلام المستقبل. فيها تتلاقى الرفوف ولا تتخاصم، أركان مخصصة للأدب، وزوايا مفعمة بالتاريخ، ورفوفا تصدح بألوان الفنون والعلوم. تتجاورالروايات والدواوين والبحوث الأكاديمية في حوار جميل وعميق.
بكثير من الحماس والشغف ، تحدّثت لـ"المغرب" كاهية مديرة التوثيق والأرشيف ولهى بولعزيز عن كنوز "المكتبة المتخصصة" في تثمين لرصيد وثائقي مهم ونوعي حول المرأة والجندر من دراسات وكتب مرجعية و كتيبات ودراسات وأبحاث و ببليوغرافيات ودوريات.. يتمثل عددها في 16000 عنوانا. وفي تأثر واعتراف بالجميل، قد تحدثت هذه المرأة التي تحرس ذاكرة الكرديف عن امرأة جليلة القدر وعالية المقام اسمها جليلة حفصية تبرعت بنفسها في حياتها بجمكتبها الخاصة إلى الكريديف.
في "الكرديف" تصنع "مكتبة الطاهر حداد" لوحدها الحدث وتستقطب الضوء وهي المكتبة الوحيدة والنوعية في تونس التي تتضمن كتابات المصلح التونسي الطاهر حداد. وقد تمّ إحداثها سنة 1999 وتحتوي على عناوين مختلفة منها: كتب الحداد في نسختها الأولى ورسائل وقصائد طاهر حداد ووثائق سمعية بصرية للمؤلف ووثائق عن الأفكار الإصلاحية للطاهر حداد وتحرير المرأة والإصلاح الاجتماعي في زمن الاستعمار . وقد أفادت "ولهى بولعزيز" أن مكتبة الطاهر الحداد اختارت أن تنحاز للإنسان أولا، فجعلت من النوع الاجتماعي رسالتها الكبرى، ورفعت شعار الدفاع عن الحقوق، وتحقيق المساواة بين النساء والرجال، وتمكين الأصوات المهمّشة من أن تتردّد في فضائها بأعلى نبرة. يبدو كل عنوان في مكتبة الطاهر الحداد هو وعدٌ بالحوار، دعوة للسؤال، وبوابة نحو فهم أعمق للآخر.

جديد الكريديف: مجلّة علمية و"أكاديميّة زمالة"

على ناصية الزمن، وتحديدا في "الكريديف" تلتقي البحوث بالرؤية، والإحصاء بالإحساس. فيكتب التاريخ بلغة ناعمة وقوّية، لغة تُعرّف بأنّ للمرأة عقلا خلاّقا، لغة تعزف للفكر سيمفونية مقاومة وحياة. بثقل تاريخه وبتخصّص إصداراته، يستأثر "الكريديف " بحضور لافت في معرض تونس الدولي للكتاب هذا العام والذي يتواصل إلى غاية يوم 4 ماي 2025. بحضور المديرة العامّة للكريديف ثريّا بالكاهية، تم تقديم آخر إصدارات المركز ومن أهمها: "موسوعة النّساء التّونسيّات: مائة امرأة وامرأة"، وكتاب" مناضلات تونسيّات: مسارات استثنائيّة في تاريخ الحركة الوطنيّة (1881/ 1961)"، وأعمال النّدوة "نساء في الفضاء العامّ: مقاربات متقاطعة"...
وفاء إلى دوره الريادي في النهوض بحقوق المرأة ودعم المساواة، يواصل الكريديف في مشاريعه المستقبلية تعزيز المساواة بين الجنسين، ودعم تمكين المرأة اقتصاديا واجتماعيا، ومكافحة العنف المبني على النوع الاجتماعي. وفي هذا السياق صرّحت لـ"المغرب" مديرة التوثيق والإعلام إيمان بوعصيدة أن رؤية الكرديف تسعى إلى تطوير برامج تكوينية ودراسات ميدانية، وشراكات مع مؤسسات وطنية ودولية من أجل دعم إدماج مقاربة النوع في السياسات العمومية وتكريس ثقافة المساواة والعدالة الاجتماعية. ومن بين مشاريع الكريديف الجديدة يأتي إطلاق العدد الأوّل من المجلّة العلميّة المحكّمة للكريديف والتي ستصدر في ديسمبر 2025 في عدد خاصّ لتكريم الطّاهر الحدّاد. و"يشكّل هذا العدد فضاء للتّفكير النّقدي حول تحوّلات أوضاع المرأة في تونس، من خلال تقاطع مختلف العلوم: علوم الاجتماع والتّاريخ والقانون والأنثروبولوجيا والدّراسات الجندريّة والعلوم السّياسيّة".
ومن مستجدات الكريديف إطلاق "أكاديميّة زمالة الكريديف" كفرصة فريدة لفائدة طلبة وطالبات الدّكتوراه في العلوم الإنسانيّة والإجتماعيّة والاقتصاديّة وعلوم التّصرّف والعلوم القانونيّة والإعلام والإتّصال.ويهدف هذا البرنامج إلى مرافقة الباحثين والباحثات الشّبّان والشّابّات لتطوير أعمالهم/هنّ وإدماجهم/هنّ لمقاربة النّوع الاجتماعي في أبحاثهم وبحوثهنّ للتّحصيل على شهادة الدّكتوراه.

جائزة زبيدة بشير تحتفل بالثلاثينية

"إن غاب طائرنا بالأمس محترقا... فاليوم يبعث والأكوان تحتفل" هكذا أنشدت زبيدة بشير ومضت ليبقى "طائر الفينيق" يحرس اسمها وحرفها وأسوار حديقتها... وبفضل إحدى إطارات الكريديف "سلاف بن فريخية" تم بعث الجائزة الوطنية التي تحمل اسم زبيدة بشير كما ينبعث طائر الفينيق من رماده ليصفق بجناحيه معلنا الثورة والحرية والحياة. هي جائزة
في مشهد ثقافي يزداد وعيا بأهمية إبراز الأصوات النسائية، جاءت "جائزة زبيدة بشير للكتابات النسائية التونسية" لتحتفي بأول شاعرة تونسية تنشر أعمالها في العصر الحديث، تلك التي فتحت للنساء التونسيات باب التعبير الحر، وجعلت من صوتها مرآة لقضاياهنّ وهمومهنّ وأحلامهنّ. تُمنح الجائزة سنويًا لتكريم كاتبات تونسيات قدّمن أعمالًا أدبية أو فكرية بارزة، سواء في مجالات الشعر أو الرواية أو القصة أو البحث العلمي المتعلق بالمرأة والنوع الاجتماعي.
في سنة 2025 ، يستعد الكريديف للاحتفال بجائزة زبيدة بشير في سياق حاص وإطار مخصوص يوافق ثلاثينية هذه الجائزة العريقة والمرموقة التي حافظت على مصداقيتها وصيتها وجمهورها.
في إرجاء ذكر التفاصيل إلى موعدها، تحدثت سلاف بن فريخية بكثير من الوفاء والحب والشغف عن مناسبة ثلاثينية جائزة زبيدة بشير، هذه المرأة الخالدة التي أوصتنا من وراء سطور قصائدها بأنّ الكلمة لا تكتمل إلا بالعدل، وأنّ المساواة تبدأ حين نقرأ العالم بعيون مفتوحة من أجل أن تكون الكلمة جسرا لا جدارا.
بعد جولة بين رفوف الكريديف وحديث مع طاقات حاملة لمشاريع وفلسفة تأسيس، ليس مبالغة أن نقول إنّ "مركز البحوث والدراسات والتوثيق والإعلام حول المرأة" لا يوثق الماضي فقط، بل يرسم المستقبل. بين جدرانه تُصاغ السياسات، تُطرح البدائل، وتُبنى أحلام مجتمع أكثر إنصافا.
من يقصد مكتبة الكرديف، لا يخرج كما دخل. فهنا، تُزرع أسئلة، تُنقّح أفكار، وتُبنى قناعات جديدة... وهنا، تُروى قصة تونس من وجهة نظر نسائها.

المشاركة في هذا المقال

Leave a comment

Make sure you enter the (*) required information where indicated. HTML code is not allowed.

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115