فقد أعلن فرض الرسوم الجمركية ولوح بضم أراض وطرح فكرة تهجير الغزاويين، وما إلى ذلك من أفكار صدامية أنتجت سلسلة من الأزمات بين إدارة ترامب وعديد الدول والأطراف الخارجية .
فور تنصيبه في 20 جانفي، وقع ترامب عددا غير مسبوق من المراسيم الرئاسية بلغ 26 مرسوما رسمت ملامح السياسات الأمريكية الجديدة . ولعل أخطر ما أعلن عنه ترامب كانت خطته لغزة فقد أراد ان يطرد سكان القطاع في نكبة جديدة شبيهة بنكبة 48 . اذ يتشابه وعد بلفور المشؤوم مع وعد ترامب خلال استقباله رئيس وزراء الاحتلال الإسرائيلي بنيامين نتانياهو في الرابع من فيفري، حينما قال ان غزة يمكن أن تصبح "ريفييرا الشرق الأوسط". وأعلن عن خطة تضمنت نقل سكان غزة، إلى دول أخرى. وأثار هذا المقترح إدانات عربية ودولية واسعة. كما شكل تقاربه مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين التغيير الأبرز في السياسة الأمريكية منذ تنصيبه.
الرسوم ...سلاح اقتصادي
في مئة يوم فقط من ولايته، دفع الرئيس الأمريكي دونالد ترامب بسياسة "أمريكا أولا" إلى قلب النظام الاقتصادي العالمي، مستخدما الرسوم الجمركية كسلاح اقتصادي لفرض إرادته على الحلفاء والخصوم معا. غير أن هذه المقاربة لم تمر دون عواقب داخلية وخارجية، إذ واجهت معارضة شديدة من ولايات أمريكية، وتسببت في اضطرابات اقتصادية عابرة للحدود. ما بين الدعاوى القضائية، والمفاوضات التجارية المتوترة مع الصين، وتأثيراتها الواسعة على الأسواق العالمية، تتجلى معالم مرحلة من التوتر المتصاعد في النظامين التجاري والقانوني العالميين. وبالإضافة إلى رفع الرسوم الجمركية، والتراجع عن الالتزامات التنموية، والانحياز السافر لإسرائيل، وضعت إدارة ترامب حجر الأساس لمرحلة من الفوضى الجيوسياسية، كان من أوائل ضحاياها القضية الفلسطينية. في هذا الإطار، برزت مواقف دولية متباينة من القوى الكبرى، عكست بداية إعادة تموضع عالمي إزاء السياسات الأمريكية الجديدة.
ومنذ يوم تنصيبه، في 20 جانفي المنقضي، اتخذ دونالد ترامب سلسلة قرارات حاسمة، كان أبرزها الانسحاب رسميًا من منظمة الصحة العالمية، وإعلان حالة الطوارئ في قطاع الطاقة. كما أمر بإنشاء "إدارة كفاءة الحكومة" بإشراف الملياردير إيلون ماسك والسياسي فيفيك راماسوامي، إلى جانب إصدار توجيهات بإعادة تنظيم المساعدات الخارجية الأمريكية.
في 23 افريل، تلقت المحكمة الأمريكية للتجارة الدولية في نيويورك سيلا من الدعاوى القضائية، تقدمت بها 12 ولاية من بينها نيويورك وأريزونا وكولورادو، مطالبة بإبطال الرسوم الجمركية التي فرضتها إدارة ترامب. وصفت هذه الولايات الإجراءات بأنها "انتهاك للدستور"، معتبرة أن الإدارة تجاوزت صلاحياتها الدستورية عبر فرض رسوم جمركية من دون تفويض صريح من الكونغرس.
ووفق تقارير أكدت "ليتيتيا جيمس"، المدعية العامة لولاية نيويورك، أن طريقة فرض الرسوم عبر أوامر تنفيذية، ومنشورات على وسائل التواصل الاجتماعي، وتعليمات إدارية تشكل تجاوزا خطيرا للآليات الدستورية التي تحدد كيفية تعديل السياسات التجارية. هذه الدعاوى، رغم أنها قانونية الطابع، تحمل بعدا سياسيا عميقا يتعلق بتوسيع السلطة التنفيذية على حساب السلطات التشريعية.
مفاوضات متعثرة مع الصين
في تزامن لافت مع تصاعد الدعاوى القضائية، كشفت مصادر داخل إدارة ترامب عن محادثات تهدف إلى خفض الرسوم الجمركية على الواردات الصينية من مستويات قياسية (145%) إلى نطاق يتراوح بين 50% و65%.
ورغم إعلان ترامب شخصيا أن التعريفات ستُخفَّض "بشكل كبير" للحفاظ على علاقة إيجابية مع الرئيس الصيني، إلا أنه شدد على أن الرسوم على السلع الإستراتيجية المرتبطة بالأمن القومي ستبقى مرتفعة.
هذا التوجه يعكس تناقضا في سياسة ترامب فهو يلوّح بالتخفيف لاحتواء الضغوط الاقتصادية المتصاعدة، ولكنه في الوقت نفسه يتمسك بأدوات الضغط لأغراض تفاوضية وإستراتيجية أوسع تتعلق بإعادة هيكلة العلاقات الاقتصادية مع بكين.
وعقب تصريحات وزير الخزانة الأمريكي حول إمكانية التوصل إلى اتفاق تجاري مع الصين، شهدت الأسواق المالية العالمية انتعاشا ملحوظا.وسجلت مؤشرات البورصات الكبرى ارتفاعات، مدفوعة بالتفاؤل بأن الحرب التجارية قد تدخل مرحلة تهدئة.
زاد من هذا التفاؤل تأكيد ترامب أنه لا يعتزم إقالة رئيس مجلس الاحتياطي الفيدرالي، مما بعث برسائل طمأنة إضافية للأسواق التي تخشى تدخلات سياسية قد تزعزع السياسة النقدية الأمريكية.مع ذلك، يظل هذا الانتعاش هشا وقابلا للانكفاء في ظل استمرار الغموض حول طبيعة أي اتفاق نهائي مع الصين.
استجابة للضغوط
تحت ضغط لوبيات صناعة السيارات، وافقت الإدارة الأمريكية على استثناء بعض مكونات السيارات من التعريفات الجمركية المرتفعة. ومع ذلك، أبقت على نسبة 25% من الرسوم على السيارات المستوردة بالكامل، مما يؤشر إلى مقاربة انتقائية تراعي مصالح الصناعات الأمريكية الأساسية، دون التخلي الكامل عن أدوات الحماية الاقتصادية.
هذا التعديل يعكس كيف أن قرارات ترامب، رغم خطابها الشعبوي، تخضع أحيانًا لمنطق الصفقات والتوازنات الداخلية، خصوصًا مع اقتراب الاستحقاقات الانتخابية وتزايد ضغوط الصناعات الكبرى.
ووفق مراقبين تشير هذه التطورات إلى أن سياسة الرسوم الجمركية التي تبناها ترامب لم تعد مجرد أداة اقتصادية، بل أصبحت نقطة اشتباك دستوري داخلي وعامل اضطراب خارجي.
ففي الداخل، تواجه الإدارة تحديات قانونية جادة قد تقيد صلاحياتها المستقبلية، وفي الخارج، تجد نفسها مضطرة لموازنة الضغوط الاقتصادية مع ضرورة الحفاظ على الحد الأدنى من الاستقرار التجاري العالمي.
مئة يوم من سياسة الرسوم كشفت حدود إستراتيجية "أمريكا أولا": بدلا من تعزيز مكانة الولايات المتحدة، أدت إلى تصدعات داخلية، وتوترات خارجية، واضطرابات في الأسواق لم تكن واشنطن دائمًا قادرة على التحكم بها.إذا استمرت هذه السياسات دون تعديل، فإنّ السنوات القادمة قد تشهد ليس فقط مزيدًا من الحروب الاقتصادية، بل وربما إعادة نظر شاملة في دور أمريكا كقائدة للنظام الاقتصادي العالمي.
تأثيرات على القضية الفلسطينية
ووفق مراقبين تكشف مئة يوم من حكم ترامب أن السياسات الأمريكية لم تعد تُدار بروح القيادة الدولية، بل بمنطق الابتزاز الاقتصادي والانسحاب من الالتزامات الأخلاقية.والقضية الفلسطينية كانت إحدى أولى الضحايا، حيث فقد الفلسطينيون شبكة دعم أساسية، وواجهوا تصعيدا في سياسات التهجير والاستيطان، في ظل غياب قدرة دولية فعالة على التعويض أو الضغط المضاد.
بداية أقدمت إدارة ترامب على رفع الرسوم الجمركية بصورة أحادية على واردات الحديد، الصلب، الألمنيوم، والمنتجات الصناعية، مستهدفةً بالأساس الصين والاتحاد الأوروبي وكندا والمكسيك. وبررت الإدارة هذه الخطوة بحماية الصناعات الأمريكية، لكنها في الواقع فجرت حربا اقتصادية متصاعدة، لم تقتصر آثارها على التجارة فحسب، بل شملت الجغرافيا السياسية العالمية.
هذه النزعة الاقتصادية الانعزالية كانت جزءا من إستراتيجية "أمريكا أولا"، والتي حملت أيضا تبعات على التزامات واشنطن تجاه الملفات الإنسانية والتنموية، وفي مقدمتها الدعم المقدم للفلسطينيين.
في هذا السياق أوقفت إدارة ترامب الدعم المالي المخصص لوكالة "الأونروا"، وقلصت أو ألغت المساعدات التنموية المقدمة لمناطق السلطة الفلسطينية، في رسالة واضحة بأن المساعدات أصبحت أداة للضغط السياسي. إلى جانب ذلك، منحت إدارة ترامب غطاء دبلوماسيا كاملا للسياسات الإسرائيلية التوسعية، مما شجع حكومة الاحتلال على تسريع وتيرة الاستيطان، والضغط لتهجير الفلسطينيين قسرا من عدة مناطق إستراتيجية، خصوصًا في القدس في الضفة الغربية.
التهجير القسري وقطع المساعدات
وفي هذا الإطار، تعمقت معاناة الشعب الفلسطيني، حيث توقف العديد من المشاريع الصحية والتعليمية والغذائية الممولة دوليًا، مما أدى إلى تفشي البطالة والجوع في صفوف اللاجئين والمجتمعات الهشة.
ورسم الجمع بين الحصار المالي والتصعيد الميداني مشهدا سوداويا، أعاد إلى الأذهان نكبات التهجير التاريخي، مع فارق أن الأدوات المستخدمة هذه المرة كانت اقتصادية بقدر ما كانت عسكرية.
من جهته سارع الاتحاد الأوروبي إلى التعبير عن قلقه العميق إزاء القرارات الأمريكية، سواء في مجال الرسوم الجمركية أو تقليص المساعدات. صدرت بيانات رسمية من بروكسل تنتقد السياسات الاقتصادية الأمريكية باعتبارها تهديدا للنظام التجاري العالمي، وتعرقل الجهود التنموية خصوصا في مناطق النزاع.
بشأن القضية الفلسطينية، حاول الاتحاد الأوروبي سد بعض الفراغ عبر زيادة مساهماته المالية للأونروا، مؤكدا تمسكه بحل الدولتين، رغم عجزه عن فرض مواقف عملية في وجه التعنت الأمريكي والإسرائيلي المشترك.
كما تعاملت الصين مع رفع الرسوم كإعلان حرب اقتصادية، فردّت بفرض رسوم انتقامية على السلع الأمريكية، في بداية تصعيد أوسع لاحقًا عُرف بـ"الحرب التجارية". في ما يتعلق بالقضية الفلسطينية، تبنت بكين خطابا داعما للحقوق الفلسطينية، مع تأكيدها على أهمية احترام القرارات الدولية، لكنها فضلت التحرك بحذر لتجنب الاصطدام المباشر مع واشنطن في ملفات غير اقتصادية.
روسيا: استثمار الفراغ الأمريكي سياسيا
من جانبها استثمرت موسكو الانكفاء الأمريكي لتعزيز حضورها السياسي في قضايا الشرق الأوسط، بما في ذلك فلسطين. كثفت الدبلوماسية الروسية من دعواتها لاستضافة محادثات سلام فلسطينية - إسرائيلية، وأكدت على التزامها بالشرعية الدولية ورفضها للقرارات الأحادية بشأن القدس.رغم ذلك، بقي النفوذ الروسي محدود التأثير، نظرا للتعقيدات الإقليمية وضعف التنسيق الفلسطيني الداخلي.
في المقابل، أظهرت مواقف الصين وروسيا والاتحاد الأوروبي أن العالم لا يقبل بالتفكك الكامل للنظام الدولي، بل يحاول بوسائله المختلفة ملء الفراغ الأمريكي، ولو أن هذه الجهود لا تزال حتى الآن مشتتة وضعيفة التأثير مقارنة بوزن الولايات المتحدة التقليدي.
مئة يوم كانت كافية لتؤكد أن السنوات المقبلة ستكون حبلى بتغييرات جذرية في خرائط القوة العالمية وتحديدا على حساب قضايا الشعوب المستضعفة، وعلى رأسها الشعب الفلسطيني.
إنهاء عزلة بوتين
وخلال 100 يوم من حكمه شكّل التقارب مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين التحول الأبرز في سياسة إدارة ترامب الجديدة.فبعد عزلة فرضها الغرب على موسكو منذ غزو أوكرانيا في فيفري 2022، أعاد ترامب التواصل المباشر مع بوتين عبر مكالمة هاتفية دامت 90 دقيقة في فيفري الماضي، أسست لتقارب استراتيجي لافت على حساب الدعم الأمريكي التقليدي لأوكرانيا.
لاحقا احتضنت السعودية مفاوضات أمريكية-روسية غير مسبوقة، اشترطت خلالها واشنطن إنهاء الحرب في أوكرانيا كأساس لاستعادة العلاقات الطبيعية.وبات لقاء ترامب-بوتين وجها لوجه مسألة وقت، وسط توقعات بعقد قمة في الرياض.
بالتوازي، تدهورت العلاقات مع أوكرانيا بشكل ملحوظ. إذ شنّ ترامب ونائبه هجوما حادا على الرئيس الأوكراني فلوديمير زيلينسكي خلال لقاء في البيت الأبيض، ملوحين بإمكانية انسحاب واشنطن من جهود الوساطة إذا لم يتم التوصل إلى اتفاق هدنة سريع.
مفاوضات مع إيران
في تطور آخر مفاجئ، شرعت إدارة ترامب في جولات تفاوض غير مباشرة مع طهران، جرت في سلطنة عمان وروما، بوساطة من المفاوض ستيف ويتكوف، أحد أصدقاء ترامب القدامى.
ورغم تمسك الإدارة بشعار "الضغوط القصوى"، فقد أوضحت واشنطن أنها تفضّل حلًا دبلوماسيًا يمنع إيران من امتلاك سلاح نووي. ومع ذلك، لم تستبعد خيار التدخل العسكري، مما يجعل المسار التفاوضي هشًا ومليئًا بالتناقضات.
وعلى خلاف الولاية الأولى لترامب، تغيب كوريا الشمالية بشكل شبه كامل عن الساحة السياسية الأمريكية حاليا.ورغم اللقاءات السابقة بين ترامب والزعيم كيم جونغ أون، التي وُصفت بالعاطفية، يبدو أن ملفات أخرى كالعلاقة مع روسيا وإيران قد أطاحت بالاهتمام التقليدي بالملف الكوري.
سياسات داخلية مثيرة للجدل
داخليا واصل ترامب نهج سياساته الشعبوية ، معلنا انسحاب الولايات المتحدة من اتفاقية باريس للمناخ ومن منظمة الصحة العالمية، ومقرا تخفيضات ضخمة في ميزانية المساعدات الخارجية تحت شعار مكافحة "الهدر" و"سياسات التنوع والشمول".
على صعيد الهجرة، نفذ ترامب عمليات ترحيل قسرية للمهاجرين غير النظاميين، وأرسل بعضهم إلى سجون في السلفادور، مصعدًا المواجهة مع منظمات حقوق الإنسان.كما خاض حربا مفتوحة ضد عصابات المخدرات المكسيكية، مصنفا إياها كـ"منظمات إرهابية أجنبية"، في تصعيد غير مسبوق في العلاقات مع الجار الجنوبي..كما عبّر عن رغبته في ضم كندا لتصبح "الولاية الأمريكية الحادية والخمسين"، وأعاد طرح فكرة ضم غرينلاند واستعادة السيطرة على قناة بنما.وفي إطار حربه التجارية العالمية، تباهى ترامب بأن "عشرات الدول" اتصلت به "تتوسل للتفاوض"، مستخدما تعبيرات مثيرة للسخرية أثارت انتقادات واسعة في الداخل والخارج.
في مئة يوم فقط، أعاد ترامب رسم ملامح السياسة الأمريكية الداخلية والخارجية، دافعًا بالولايات المتحدة نحو مسار جديد من المواجهة والانعزالية والانفراد بالقرارات.بين إنهاء عزلة روسيا، وخوض معارك مع القضاء، وتهديد بنسف قواعد دستورية راسخة، تبدو المرحلة المقبلة مرشحة لمزيد من التوترات الداخلية والتحديات الخارجية، وسط ضبابية حول مستقبل الديمقراطية الأمريكية ودورها العالمي.