ونزوح داخلي جماعي. ومع استمرار الحرب منذ أكثر من 21 شهرا، تشير الوقائع إلى تحوّل "سوء التغذية" إلى مجاعة حقيقية تُصيب مئات الآلاف. لم يعد الموت في غزة مرتبطا فقط بسقوط القنابل أو قصف الطائرات، اليوم، بل يتسلّل الموت ببطء، وبصمت ويتغذى من أجساد الأطفال الضعفاء، ومن أرحام النساء الحوامل. إنه الجوع، الوجه غير المعلن للحرب، والسلاح الصامت الذي يُستخدم بفعالية لا تقل ضراوة عن القنابل.
وأعلنت وزارة الصحة في غزة مؤخرا أن 202 فلسطينيا استشهدوا خلال 48 ساعة فقط، ما يرفع الحصيلة إلى 55,908 شهيدا و131,138 مصابا. لكن تلك الإحصاءات لا تُظهر جانبا آخر من المأساة وهو عدد من يموتون جوعا. ففي مشاهد صادمة، وثقت الفرق الطبية وفاة رضع بسبب الجوع الحاد، ليس بفعل قصف مباشر، بل بسبب انعدام الحليب، والمياه النظيفة، والرعاية الصحية. هذه ليست حوادث فردية، بل نمط متكرر يُشير إلى سياسة تجويع ممنهجة.
الحصار الغذائي
منذ انهيار اتفاق وقف إطلاق النار في مارس 2025، شددت إسرائيل حصارها المفروض أصلا على قطاع غزة. ووفقا للأمم المتحدة فإن الجيش الإسرائيلي يمنع دخول الوقود منذ أكثر من 16 أسبوعا ما تسبب بشلل شبه كامل في أنظمة الكهرباء والتبريد، بما في ذلك مخازن الأغذية والمستشفيات.
لم تكن المساعدات الإنسانية بمنأى عن الاستهداف فقد سقط مدنيون، بعضهم أطفال، برصاص جيش الاحتلال الإسرائيلي أثناء انتظارهم للطعام في مناطق توزيع تديرها منظمات دولية أو شركات خاصة. هذا السلوك – الذي يتكرر بانتظام – يشكّل بحسب خبراء القانون الدولي "خرقا صارخًا لمبدأ حماية المدنيين وتحييد المساعدات الإنسانية".
في قطاعٍ يعاني أصلاً من ضعف الإنتاج المحلي بسبب القيود المفروضة على الأراضي الزراعية والصيد، أصبحت المساعدات الدولية شريان الحياة الوحيد ، ووفق مراقبين يؤدي هذا المنع إلى نتيجة واحدة وكارثية وهي المجاعة .
ووفق تقارير ارتفع سعر كيلو الطحين بـ3000 ضعف. هذا الرقم الصادر عن برنامج الأغذية العالمي، يُظهر حجم الأزمة. ففي غزة أصبح الغذاء سلعة نادرة، ليس بسبب غياب الموارد، بل بسبب الحصار. ويقول كارل سكاو، مدير البرنامج: "مطابخنا في غزة خالية. لا نقدّم سوى الماء الساخن مع القليل من المعكرونة. رأيت أطفالًا يُعطَون طحينًا ممزوجًا بالماء فقط ليسدّوا رمقهم".
ويعاني الأطفال -أمام هذا الانهيار الغذائي- من سوء تغذية حاد، وتظهر مؤشرات واضحة على توقف النمو، نقص المناعة، وزيادة في الوفيات الناتجة عن أمراض كان يمكن تجنبها بالتغذية السليمة فقط.
ومن جهتها تقول جوان بيري، الطبيبة في منظمة أطباء بلا حدود: "بسبب سوء التغذية، تولد النساء قبل أوانهن، ويصل الأطفال إلى الحياة وهم في حالة هزال. وحدة العناية المركزة مكتظة؛ أربعة إلى خمسة رضع يتشاركون حاضنة واحدة".
صمت دولي
ورغم التقارير الأممية المتتالية، لم يسجّل حتى الآن تحرك دولي فعّال أو مستدام لحماية سكان غزة من الجوع. حيث تعهّدت بعض الدول بإرسال مساعدات، لكن العبور لا يزال بطيئا مشروطا ومقيّدا بالترتيبات الأمنية الإسرائيلية.
لم يعد الجوع مجرّد أزمة إنسانية، بل صار أداة للضغط السياسي، وللإخضاع الجماعي، وهو ما يتعارض مع كل الأعراف والاتفاقيات الدولية.
ووفقا لاتفاقيات جنيف والبروتوكولات الملحقة، فإن "تجويع السكان المدنيين كأسلوب من أساليب الحرب محظور تماما". ومع ذلك تظهر الوقائع في غزة أن هناك نية منهجية لعزل السكان عن موارد البقاء الأساسية، وحرمانهم من الحق في الغذاء والماء والدواء.
وفي هذا السياق تقول منظمات حقوقية دولية، من بينها "هيومن رايتس ووتش" و"العفو الدولية"، إن ما يحدث في غزة "قد يشكل جريمة ضد الإنسانية"، خاصة وأن سياسات الحصار والتجويع تمارس عن سابق قصد، ضمن حملة عقاب جماعي ينفذها العدو الصهيوني .
فلسطين تطلب اجتماعا عربيا طارئا
في نفس السياق طلبت فلسطين عقد اجتماع طارئ لجامعة الدول العربية على مستوى المندوبين الدائمين، لبحث الحصار والتجويع اللذين تفرضهما إسرائيل على الفلسطينيين في قطاع غزة.
جاء ذلك بحسب ما نقلت وكالة الأنباء الرسمية "وفا"، امس الاثنين، عن المندوب الدائم لفلسطين لدى الجامعة العربية مهند العكلوك.وقال العكلوك إن دولة فلسطين طلبت عقد دورة غير عادية لمجلس الجامعة على مستوى المندوبين الدائمين اليوم الثلاثاء.وأوضح أن "هذه الدعوة تأتي في ظل الأوضاع الكارثية وحصار التجويع والموت المجاني الذي يتعرض له المدنيون في قطاع غزة".
ولفت إلى أن "قوات الاحتلال تعمدت استدراج المدنيين الجوعى إلى نقاط توزيع مساعدات غير إنسانية ثم استهدافهم بالقتل". العكلوك أضاف أن هذا الاستهداف "أدى إلى استشهاد ما يقارب 1000 فلسطيني، أثناء محاولتهم الحصول على الغذاء لعائلاتهم".وشدد على أن "الاحتلال يستخدم التجويع كسلاح ممنهج للإبادة الجماعية".
ويأتي هذا التحرك الدبلوماسي في ظل تفاقم الوضع الإنساني داخل القطاع، وظهور مؤشرات واضحة على انهيار منظومة الأمن الغذائي والصحي، وارتفاع أعداد الوفيات الناتجة عن الجوع وسوء التغذية، خصوصا في صفوف الأطفال والرضّع. وبينما تتصاعد الأصوات الدولية المنددة، يترقب المراقبون ما إذا كان التحرك العربي سيذهب أبعد من البيانات، إلى أفعال ملموسة.
جاء في بيان المندوب الدائم لفلسطين لدى الجامعة العربية، مهند العكلوك، أن الاحتلال الإسرائيلي "يتعمّد استدراج المدنيين الجوعى إلى نقاط توزيع مساعدات ثم يستهدفهم بالقتل"، مشيرًا إلى استشهاد نحو 1000 فلسطيني خلال محاولاتهم تأمين الغذاء لعائلاتهم، في ما وصفه بأنه "استخدام ممنهج للتجويع كسلاح إبادة جماعية".
هذه الحقائق، التي تدعمها تقارير ميدانية من منظمات دولية ومحلية، تشير إلى تحوّل الحصار من سياسة خنق اقتصادي إلى أداة مباشرة للقتل البطيء، في ظل منع إدخال الوقود، وعرقلة دخول المساعدات، وتدمير البنى التحتية الصحية والغذائية.وبلغ الوضع في غزة ، وفق توصيف الأمم المتحدة، مستوى "الكارثة الإنسانية الكاملة"، حيث يموت الأطفال في الحاضنات بسبب انعدام الكهرباء، ويهلك الرضّع من الجوع بسبب غياب الحليب والماء النظيف، فيما تقف المستشفيات عاجزة أمام تدفق المصابين وسوء التغذية.
ووفق محللين يمثل الاجتماع المرتقب، الذي يُعقد اليوم الثلاثاء في القاهرة، اختبارا حقيقيا لفعالية التحرك العربي المشترك. هل تملك الجامعة القدرة، أو حتى الإرادة، للذهاب أبعد من بيانات الإدانة والشجب؟ سؤال يتجدد في كل محطة مفصلية في القضية الفلسطينية، لكنه اليوم أكثر إلحاحا نظرا للواقع الحرج في غزة.
فرغم تصاعد الأصوات الدولية المطالبة بوقف المجاعة في غزة، إلا أن الاستجابة الفعلية لا تزال دون المستوى. الأمم المتحدة، وبرغم بيانات التنديد المتكررة، لم تنجح حتى الآن في فرض ممرات إنسانية آمنة أو رفع القيود المفروضة على إدخال المساعدات.أما مجلس الأمن، فقد أخفق في التوصل إلى قرار ملزم بشأن وقف إطلاق النار الكامل أو إنهاء الحصار، نتيجة الفيتو الأمريكي المتكرر، ما زاد من تعقيد الأزمة.في هذا الفراغ الدولي، تبدو الجامعة العربية أمام فرصة و مسؤولية على الأقل لكسر الصمت، من خلال موقف موحد، يربط المأساة في غزة بمصير المنطقة، ويجعل من رفع الحصار أولوية عربية لا مساومة فيها.
"انتهاك خطير"
من جهتها استنكرت وزارة الصحة في غزة، أمس الاثنين، اختطاف مدير المستشفيات الميدانية بالقطاع مروان الهمص، واعتبرت أنه "انتهاك خطير" لحرية التعبير والعمل الإنساني، وحمّلت إسرائيل المسؤولية الكاملة عن سلامته مطالبة بالإفراج الفوري عنه.
وأدانت في بيان "بأشد العبارات إقدام وحدة مسلحة خاصة على اختطاف مدير مستشفى أبو يوسف النجار والمكلف بإدارة ملف المستشفيات الميدانية، والمتحدث باسم الوزارة الدكتور مروان الهمص ظهر الاثنين".وعدّت وزارة الصحة ذلك "سابقة خطيرة تمثل استهدافًا مباشرًا لصوت المرضى والجوعى والمعذبين في قطاع غزة".
وأضافت أن "هذا العمل الجبان استهدف أحد أبرز الأصوات الإنسانية والطبية التي نقلت للعالم أوجاع الأطفال الذين يموتون جوعًا، وآلام الجرحى الذين يُحرمون من الدواء، وصرخات الأمهات أمام بوابات المستشفيات".ورأت أن اختطاف الهمص "يعكس نية مبيّتة لإسكات الحقيقة، وحجب معاناة شعب بأكمله يعيش أبشع كارثة صحية وإنسانية".وفيما اعتبرت الوزارة "هذا الاعتداء انتهاكًا خطيرًا لحرية التعبير والعمل الإنساني"، حمّلت الاحتلال الإسرائيلي "المسؤولية الكاملة عن سلامته"، وطالبت "بالإفراج الفوري عنه دون قيد أو شرط".
من جانبهم، أفاد شهود عيان ومصادر أمنية وفق الأناضول، بأن مسلحين يقودون مركبة دفع رباعي أطلقوا النار على مجموعة مواطنين بمقهى على البحر بمدينة خان يونس جنوبي قطاع غزة مقابل مستشفى الصليب الأحمر واختطفوا الهمص.وأكد الشهود والمصادر أن "عملية الاختطاف المسلحة أسفرت عن مقتل فلسطينيين وإصابة سائق سيارة الإسعاف الخاصة بهم أمام مستشفى الصليب الأحمر الميداني".
وعلى مدى أشهر الإبادة في غزة، أعلن الهمص مرارا عن انتهاكات إسرائيل الخطيرة، واستهدافها المستشفيات، وقتلها واعتقالها أفراد الطواقم الطبية من أطباء وممرضين ومسعفين، ومنهم مدير مستشفى كمال عدوان حسام أبو صفية، في انتهاكات صريحة للقانون الدولي الإنساني.