بل هو تاريخ من العشق ومن الحكايا والجمال الذي لا يبوح بسره إلا لمن يتمكن من اقتياده وإجباره على البوح،
لذلك يمضي العازف معه عمرا كاملا وقد يتحقق له هذا التميّز أو لا يتحقق". بهذه الكلمات اختصر عازف العود نصير شمّة المسافة الفاصلة بين أنامل الفنان وأوتار العود التي تبدو على قربها أبعد من بعيد، فللعود أسرار وأوكار لا تهب مفاتيحها إلا للمبدعين المختلفين، ومن بينهم التونسي أنور براهم.
في حفل حصري واستثنائي على ركح مهرجان دقة في صائفة 2024، عزف أنور براهم أمام جمهور وشبابيك مغلقة لتسافر نغماته كالنوارس في سماء بعيدة من الأحلام. وإلى ما "بعد السّماء الأخيرة" تحلّق موسيقى أنور براهم في ألبومه حديث الصدور.
أنور براهم ومحمود درويش وإدوارد سعيد
يقول محمود دروريش: "إلَى أين نذهب بعد الحدود الأخِيرة ؟ أَين تطير العصافِير بعد السَماء الأخيرة؟ أَين تنام النَّباتات بعد الهَوَاء الأخير؟ وقد ألهمت هذه الشذرات الشعرية والمدارات الوجودية أنور براهم عنوان ألبومه الجديد : "بعد السّماء الأخيرة". وسبق إن استوحى انور براهم من قصيدة محمود درويش " ريتا والبندقية" عنوان ألبومه "عيون ريتا المذهلة" (2009).
ويبدو أنّ لأنور براهم مع "الما بعد" حكاية متأصلة في فكره ومتجذرة في مشروعه الفني ؟ فكأننّا به يحفر عميقا في مفهوم "الميتا" أو "الما بعد" من منظور الفلسفة لينفذ إلى كنه الأشياء ولتتجاوز الظاهر إلى الما وراء !
ما قبل ألبومه الجديد "بعد السّماء الأخيرة"، كان أنور براهم وتحديدا في سنة 2006 قد أخرج الفيلم الوثائقي الأول في مسيرته بعنوان "كلمات ما بعد الحرب". وقد تم تصوير هذا الفيلم في لبنان غداة الحرب التي دارت بين إسرائيل وحزب الله. وقد تم اختيار هذا الشريط للمشاركة في مهرجان لوكارنو السينمائي.
أكثر من 10 مقطوعات موسيقية تسافر بجمهور ألبوم "بعد السّماء الأخيرة" بعيدا بعيدا، وخاصة مع مقطوعة "تأملات إدوارد سعيد" التي تقاطعت فيها الأقدار والمواضيع في تأملات حول المنفى والوطن والاحتلال والثقافة والسياسة...
"التشيللو" يرافق لأول مرّة عود أنور براهم
بعد ثمانية أعوام من صدور ألبومه "Blue Maqams" ، يعود أنور براهم بألبوم "بعد السّماء الأخيرة" في حوار من التناغم والانسجام ما بين آلات العود و"التشيلو" و"البيانو" و"الكونترباص" في محو لأي حدود بين الآلات أو الثقافات أو اللغات، فوحدها الموسيقى تتكلّم والشعوب تصغي !
ويشكل عازف القيتار "دايف هولاند" وعازف البيانو "جانغوبيتس" مرة أخرى جزءًا من الرباعي العالمي لأستاذ العود التونسي، لتنضم إليهما عازفة التشيلو "أنجا ليشنر". ويمثل ألبوم "بعد السّماء الأخيرة" أول إدراج لآلة "التشيلو" في المجموعة الموسيقية لأنور براهم.
تم تسجيل ألبوم "بعد السماء الأخيرة" في مدينة "لوغانو" بسويسرا. ويعتبر "آدام شاتز" حسب ما دوّنه في في كتيّب الألبوم ، "أنّ موسيقى أنور براهم في هذا السياق الأدبي الجمالي، وكذلك في علاقة أيضا بالحرب الفلسطينية المستمرة من أجل حقوقهم، تعكس مدى انشغاله حد الهوس بهذا الموضوع المؤلم، أثناء إعداد "بعد السّماء الأخيرة".
«من لم يحرّكه الربيعُ وأزهاره، والعودُ وأوتاره، فهو فاسدُ المزاج ليس له علاج»، هكذا قال الإمام حامد الغزالي. ومنذ العاشرة من عمره، صادق أنور براهم العود وأخلص له باعتباره المعلم "الساحر" الذي يحمل في جعبته كل التراث الموسيقي للعالم العربي والإسلامي، بل ويعزف برقة لا متناهية سحر الشرق وغموضه وحكاياته وأساطيره... منذ حوالي أربعين عاما وأنور براهم يبتكر موسيقى تهزأ من الحواجز وتتمرد على الحدود لتطرب الإنسان في كل زمان ومكان.
أنور براهم في سطور
عازف عود تونسي وموسيقي متخصص في موسيقى الجاز، ولد في 20 أكتوبر عام 1957 في حي الحلفاوين في تونس، وفي سن العاشرة التحق بمعهد الموسيقى حيث تعلم العود على يد علي السريتي، وبدأ يعزف في الفرق الموسيقية في سن الخامسة عشرة. في عام 1981،استقر بباريس لمدة أربع سنوات، وهي فترة تعامل خلالها مع "موريس بيجار" وألف العديد من الأعمال الجديدة، منها موسيقى أفلام ومسرحيات تونسية مثل (عصفور السطح، صمت القصور، موسم الرجال....). كما وضع الموسيقى التصويرية لعديد الأغاني التونسية وتعامل مع لطفي بوشناق ونبيهة كراولي ...
حاز أنور براهم على امتداد مسيرته الفنية العديد من الجوائز على غرار: الجائزة الوطنية للموسيقى (تونس 1985 )، وجائزة أديسون عن ألبومه '"رحلة سحر" (هولندا1992)، جائزة صدى الجازالممنوحة لأفضل موسيقي دولي (ألمانيا2010 )عن ألبومه "عيون ريتا المذهلة". كما تحصل على رتبة فارس الفنون والآداب (فرنسا 2009).