فنرسم أمنيات صغيرة أو كبيرة في مدى الغيمات المسافرة ما بين سراب و ماء. ولولا الحلم لما كانت إيمان الميساوي ستؤمن بأنّ جبل سمّامّة يمكن أن يتحوّل إلى "علامة مسجلة" في تقطير الزيوت الطبية من خلاصة نباتات جبلية وأعشاب برية تمنحها الطبيعة بمنتهى السخاء والنقاء دون تدخل من الكيمياء أو الدواء.
هناك، في ريف سبيطلة وعلى سفح جبل سمامة تفوح النباتات البرية بعبق التاريخ والآثار وبعبير عطر منعش يميّز المكان، ويؤنس الإنسان، ويمنح النساء قاطفات الإكليل والزعتر والشيح...حزمة من الخضرة ولقمة العيش.
حياة قاسية وطموحات عصية عن الانكسار
وحدها سفوح الجبال والمروج الخضراء الندية بقبلة الصبح، تشهد على خطوات نساء تسابق الزمن في موسم القطاف، وعلى أنامل تملأ السلال بحزمات من النباتات ربما على أهازيج أغنيات وأرجوحة أمنيات في أن يكون الحصاد غزيرا والكسب وفيرا.
في هذه البيئة الصديقة للطبيعة، كان قدر إيمان الميساوي أن تتوراث عن أمها وعن قاطفات الأعشاب في منطقتها هذه المهنة لتصبح قدرها في حياتها وخيارها في مسارها الدراسي والمهني. خان الحظ إيمان في الالتحاق بكلية الطب، لكنه لم يتخل عنها في دراسة البيولوجيا التحليلية والتجريبية في كلية العلوم بقفصة. ولولا ظروف اجتماعية قاسية لواصلت إيمان الميساوي الدراسة إلى مراحل متقدمة لكنها اكتفت بشهادة الإجازة لتلتحق بسوق الشغل حيث تعمل بمخبر تحاليل طبية في القصرين.
بدأت إيمان الميساوي مشوارها حرفية في الحلفاء متأثرة بمهارة أنامل الأم في ترويض أوراقها الحادة لتتحول إلى لطف ولين. وكل هواجسها المساعدة في إعالة أسرة ثلاثة من أبنائها من أصحاب الاحتياجات الخاصة. هذه الوضعية الإنسانية جعلت "إيمان" تحمل عبء المسؤولية الاجتماعية وتحلم بأن تقدم الكثير لعائلتها قبل نفسها.
ولأنّ الحياة قد تبعث في طريقنا من يأخذ بأيدينا ويهوّن علينا تعب المشوار ويشحننا بطاقات الحيوية والمحبّة، فقد عثرت إيمان الميساوي في المركز الثقافي الجبلي للفنون والحرف بسمامة على مختبر لأبحاثها ومخبر لأحلامها ... ولأنّ حاجتنا لبعضنا البعض ليست ضعفا بل هي جزء من إنسانيتنا، فإنّ إيمان الميساوي تضع حدا فاصلا بين نمط حياتها ورؤيتها للعالم قبل تعرفها على مؤسس المركز عدنان الهلالي وبعده. فتقول: "كانت صدفة جميلة جعلتني أتعرّف على عدنان الهلالي الناشط الثقافي والفنان والإنسان، وهو الذي شجعني على الحلم والخلق والابتكار... فمررت من مرحلة حرفية تصنع منتوجات الحلفاء الكلاسيكية والتقليدية إلى حرفية فنانة تقتلع الحلفاء من السباسب لتحلق بها في سماء الإبداع. فأعدنا على سبيل المثال رسم لوحات الرسام العالمي فان غوغ بالحلفاء على غرار لوحته الشهيرة " ليلة النجوم" لتضئ هذه النجوم معلقة "ليلة سمامة الضواية" وإبداعات معرض حرفي فني مستلهم من رسوم هذا الرسام العبقري".
كمن اهتدى إلى طريق النور بعد تشتت للفكر وتيه للروح، تصرّح إيمان الميساوي بصوت صاخب وكأنها تصرخ من الفرح:" باختصار أقول أني كنت سابقا أدرس باجتهاد حتى أحصل على موطن شغل وبالتالي مورد رزق يحفظ ماء الوجه وكفى ! وبعد تأسيس المركز الثقافي الجبلي للفنون والحرف بسمامة ، كبرت أحلامي وانفجرت طموحاتي بأن أحقق ذاتي، وأبعث مشروعي الخاص باسم جبل سمامة، وأن أترك بصمة في مجال البيولوجيا في استثمار لخصوصية الغطاء النباتي في القصرين والذي يتميز بنباتات برية وأعشاب جبلية يهبها رحم الأرض لتكون عبقا ورزقا ودواء".
مخبر للبحث والتجريب والتثمين للنباتات الجبلية
في سمّامة تشهد "هضبة محمود درويش" على ذكرى شاعر كبير، وفي فلسطين تشكل النباتات الجبلية عنصر هوية ومورد قوت ومصدر دخل للسكان، كما تمثل الأعشاب البرية هدية ود وحب يقدمها الفلسطينيون إلى الأحباب والأصحاب. وكان مؤسس المركز الثقافي الجبلي بسمامة يهدي زواره باقات من إكليل وأعشاب جبلية، ويسافر إلى المحافل الدولية والمهرجانات الأوروبية وعلى رأسه تاج من الإكليل وبين يديه باقات أزهار برية يفوح منها عطر تونس في أرجاء العالم. أمام هذا الثراء الحضاري والزخم الاجتماعي لنباتات الجبل، شرعت البيولوجيست إيمان الميساوي في تثمين هذه الثروة النباتية ذات الخصوصية الفريدة ودراسة خصائصها وفوائدها وجرد صفاتها ووصفاتها ... حتى توصلت بعد دورات تكوينية في المجال إلى ابتكار زيت طبيعي مكوّن من مزيج من الأعشاب البرية يخفف التهاب المفاصل. وقد حظي هذا المنتج الطبيعي برضاء كل من جرّبه من حرفاء بعد أن قلص من آلام عظام أنهكها البرد والتعب .
بصوت طفولي وبشوش، تتحدث إيمان الميساوي بحماس عن الخبرة الجيّدة بالأعشاب الجبلية وأنواعها ومنافعها واستعمالاتها التي اكتسبتها بعد التجربة والبحث... كما تؤكد أنها لا تزال في طور توسيع معارفها عن النباتات العطرية والطبية حتى تكون زيوتها بلسما للجروح ومعالجا للالتهابات ومخففا للآلام... وتحلم إيمان بأن يكون جبل سمامة منتجا ومصدرا لزيوت طبيعية ذات فوائد طبية وعلاجية وتجميلية.
تقطن إيمان الميساوي في منطقة "بوزقام" البعيدة نسبيا عن مقر المركز الثقافي بسمامة، ولأنها تجد في المركز مخبرا للبحث وحقلا خصبا للإبداع والتجارب الإنسانية فقد اقتنت دراجة نارية تقيها مشقة التنقل وتطير بها متى شاءت إلى سمامة، إلى حيث مركز الفنون والحرف على أجنحة أحلام كبيرة معطرة بأريج نباتات عطرية وجبلية.
من القطف إلى التقطير، وسواء تحوّلت الأعشاب إلى ماء أو إلى زيوت، تدين إيمان الميساوي بالكثير إلى معلمتها الحرفية والمشرفة على ورشة التقطير بالمركز الثقافي بسمامة ونيسة الهلالي، فتقول : " مهما تعلمت في الجامعة وفي مخابر البحث من علوم ، فتبقى خالتي ونيسة هي أستاذتي التي علمتني وتعلمني دروس الحياة في الصبر والكفاح وتحويل الحجارة التي تعيق مجرى حياتنا إلى سلم للصعود وتحقيق طموحاتنا وأحلامنا..." ومن جرّب التحدث إلى ونيسة الهلالي يدرك أنها تتبنى دون إدراك منها قول الشابي: " ومن لا يحبُّ صُعودَ الجبالِ ... يَعِشْ أبَدَ الدَّهرِ بَيْنَ الحُفَر".