سعود السنعوسي في تحرير نصه الرائي المغري "اسفار مدينة الطين" نص" اهداه على لسان شخصيته المتخيلة الصادق بوحدب الى حراس الغبار، دهاقنة المعرفة اساطير التراث الغيارى، حراس التقاليد عسس الماضي، وحملة اختام التاريخ هذا النص باحداثه واسمائه وبطبيعة حاله لا يعدو كونه رواية، نتخيل بها التاريخ ولا نكتبه".
اسفار مدينة الطين ثلاثية تتكون من "سفر العباءة" و"سفر التبة" "سفر العنفوز" قرابة 1200صفحة، صدرت عن "المولاف للنشر" و"دار مسكلياني" في الطبعة التونسية، نص جريء كتبه كاتب اختار الجرأة والاختلاف سبيله لتحبير نصوصه الروائية.
الاسفار الثلاث: العباءة، التبة والعنفوز: سردية ميثيولوجية بروح عربية
يبدع في التلاعب بمشاعر قرائه، يتفنن في الرحيل بخيال القارئ الى ابعد عوالم اللامتوقع، يصنع عالم خاص به له سرديته الخاصة في مزج الحقيقة بالخيال وتركيب التاريخ بالاسطورة، لكاتب الاسفار اسلوبه الفريد، يشعر القارئ انه رسا في برّ الامان وفجاة يندفع صوت البحارة الستة وهم يغنون "هولو هيه هولو هيه" وتندفع موجات "التبة" السبعة" لتثير كل الحواس وتوقظها، هكذا هو كاتب الاسفار يستمتع بخوف القارئ وحبه ويتفنن في التلاعب بمشاعره.
أن تجازف بقراءة نصوص سعود السنعوسي فعليك التسلح بالكثير من الصبر فمفاجآت الكاتب لا تنتهي، وثلاثية "اسفار مدينة الطين" رواية متقنة التطريز، وكأنها حبة لؤلؤ أتعبت الغواصين كثيرا قبل الحصول عليها، الرواية بأجزائها الثلاثة مغرية بالقراءة لأكثر من مرّة لمحاولة تفكيك الرموز المنفلتة داخل النص،ّ لان الرواية كذبة تقول الحقيقة حسب تعبير السنعوسي، فنصوصه متقنة الحبكة كاتب له طريقته الفريدة في نحت ابعاد شخصياته الروائية تبحر قصصه في مدارات "الف لية وليلة"، يوظف البعد الغرائبي ببراعة تماما كما روح نص "السد" لمحمود المسعدي ويتفنن في توظيف البحر لخدمة نصه وكاننا انمام "مدن الملح" لعبد الرحمن منيف ويتقن التفاصيل ويسكن المكان بهيبة وان كان "حوطة منسية" منسية تماما كنصوص ابراهيم الكوني في محاكاته للمكان " من اين للمكان ان يورث جماله لاهله فلا يصيرون هم في غيره؟".
ان كنت تخاف المجازفة ايها القارئ فلا تنصت لحكايات صانع الاسفار واذا كنت لا تبحث عن اسلوب مشوق ويرهبك ويدفعك للسؤال فلا تقرئ نصوص السنعوسي فبين كلماته الغام كثيرة وتشويق مذهل فكلماته تشبه النقر على طبول الحرب او هي رقصات الحالمين في حفلات الزار هكذا تتدفق كلماته فيمعن في توصيف البشر وكائناته الورقية ويعطيها طابعا ميثيولوجا، اشخاصه لا تشبه البقية من "الصاجة ام حدب الحدباء الجرباء" الى "خليفوه وبس، الاملط دون شعر ولا حاجبين" فغايب بودرياه "بوجهه الشائه وعينيه الزجاجتين" وحيوانته كذلك فالقطة مبروكة تلد جراء دون رؤوس وحده القط الاسود يخرج من بطن امّه متبخطرا، والموج ايضا يصبح شخصية لها توصيفها "امواج البحر ساجية كسولة بلكاد تدرك رمال الساحل رتيبة بلا عزم" والصخور كذلك لها ما يجعلها مختلفة على غرار "صخرة الوَطْيِة" المُبتلاة بالنسيان بين مدٍ وجزر "الصخرة تشهد وتسمع كل ما يدور حولها اذا ما تبدت في اوقات الجزر وتنسى الصخرة كل كل ما سمعت وابصرت اذا عادت المياه المد" فلسعود السنعوسي او كاتب الاسفار عوالمه الوصفية والسردية المشوّقة.
في رواية "اسفار مدينة الطين" اختار الكاتب تحميل مسؤولية الأحداث كاملة لكاتب الاسفار الروائي صادق بوحدب، شخصية ابتكرها السنعوسي ليحمّله وزر الرواية، ولانّ الكاتب جد ذكي فقد انطلق الجزء الأول بمذكرات الصادق بوحدب وحديثه عن منع الرقابة للرواية ومصادرتها لانّها تشوه جزء من التاريخ "صودرت الرواية واتلفت...هكذا ببساطة" كما تقول اول جملة في السفر الاول، فالكاتب الحقيقي المختفي في روح كاتب الاسفار بحث منذ الاول عن قارئ يدافع عن النص ليكون سنده المعنوي بعد ان منعت الرقابة الحقيقية ابنته السابقة "فئران امي حصة" عام 2015 وافرج عن النص بقرار من المحكمة عام 2018.
من يكتب من؟ هو السؤال الابرز بعد اتمام الرحلة في اسفار مدينة الطين؟ هل الصادق بوحدب يكتب شخصياته ام العكس؟ هل الروائي المتخيل في الخمسينات هو من صنع شخصياته من حبر ثم نفث فيها روحا وأحياها في فترات زمنية مختلفة؟ ام العكس "انت لم تكتب الصاجة، هي كتبتك" كما تقرّ شخصية "الشايب" مزود الروائي الاساسي بالحكايات " قال اني حر في التصرف وان اشطح بخالي كيفما شئت من تغيير او زيادة وفق ما ارتئيه فيما بشريطة الا احاول فهم كل شيء في لحظة الكتابة وألا اسال لماذا، لاني سوف افهم تاليا" كما يقرّ الكاتب في "ذخيرة ايام الخرف".
الرحلة رحلات والرواية بوّابة لفنون مختلفة
"اسفار مدينة الطين" ملحمة ابداعية ممتعة،كتبت بشاعرية مفرطة، جولة في التاريخ والخيال، تشبه الميثيولوجيا القديمة، عمل متين الكتابة يدفع بالقارئ لطرح العديد من الاسئلة، نص محلي ببعد كوني، كتبه كاتب كويتي عن "ديرته" ثم "خليجه" وشحن النص بخيالات وشخصيات وأساطير وحكايات يتشاركها القاري في بعده الانساني، فالصادق بوحدب الروائي المتخيّل يعرف جيدا ان الكتابة لغة تحيي الموتى، فاحيى بقلمه شخصيات من العام 1920 وجعلها تندفق من "الموجة" لتحيا دائما ووحده القادرة على اخماد صوتها وتغيير مصائرها.
"سفر العباءة" و"سفر التبة" و"سفر العنفوز" ثلاث اجزاء من رواية تداخلت فيها الاجناس الادبية والفنية، فحضرت السيرة والمذكرات من خلال حكي الصادق بوحدب عن نفسه "ذخيرة ايام الخرف" وحضرت القصة القصيرة فلكل شخصية سرديتها الخاصة ولكل شخصية مساحتها للبوح، كما تمازج النثر بالشعر، فما تقوله الصاجات وتنظمه يشبه كثيرا قصائد شعرية مرصوصة المعاني، في الرواية ابدع السنعوسي على لسان كاتب الاسفار في السفر بقارئه الى بوابات ابداعية مختلفة تشبه بوابات "الديرة" الخمسة قبل حرب الجهراء عام 1920، وللروائي اسلوبه الفريد في الحكي، كما حضر فن البورتريه فبل الكتابة يستحضر توصيفات دقيقة للشخصية من ملامحها الخارجية وصولا الى افكارها ومشاعرها ليكون النص سردية للجمال تشبه الدرر المنثورة التي يعرفها ابن الكويت ويقدر قيمتها.
تحضر الموسيقى بقوة في متن العمل، صوت طبول الحرب يكاد ينفلت من النص، حركات راقصي العرضة عند السور، غناء النهام عند السنبوك (السفينة)، اهازيج النساء وهن واقفات على السيف منتظرات عودة البحارة بعد موسم الغوص، الحركات الدائرية والاصوات النسائية في نفانيفهنّ الملوّنة (لباس تقليدي نسائي) وقت "دق الهريس" اصوات قرع الدفوف في بيت "ام حدب" يوم "السديس" وصوت الموسيقى الكلاسيكية المنبعثة من "الغرامافون" في بيت المعتمد البيرطاني ثم موسيقى ايقاع "السنكني" جميعها تشكّل مقطوعة موسيقية صاخبة تعبّر عن ثورة الشخصبات ورغبتها في التمرد على كاتبها، وثورة الكاتب الحقيقي على السائد بتحبير نصّ اقسم فيه بجمالية الكلمة وقدرتها على التغيير" اقسم بالقلم ومن علّم بالقلم، اقسم بالخيال وبربّ الخيال، اقسم بالكلمة وبربّ الكلمة".
يبدع السنعوسي من خلال كاتب اسفاره في التارجح بمشاعر القارئ، يحمله الى اقصى درجات الفرحة ويعيده الى محيط الحزن بين السطور، يلعب بالشخصيات كما يشاء، يقتلها ويحييها ويعطيها اسماء غريبة "صنقور المصوقر" او "غايب بودرياه" كما يصنع عبر كلماته مشاهد مسرحية تنعش روح القارئ وتخرجه من كومة السود في العباءات فيخرج من مدينة الطين الى جزيرة فيلكا لينقل اهازيج الحياة لدى العمة "زمزم" ويقول ""كان الناس نساء ورجالا واطفالا يقصفقون ويرددون الاغنيات مع الفرقة الغنائية التي تتكون من ثلاث مجموعات يقفن في صفوف افقية يواجهون بعضهم على شكل مثلث، تقابل صفا النساء والرجال يؤدون حركات راقصة بطيئة رصينة والجميع يلوحون بالمناديل الملونة" هذه الالوان جميعها توجد داخل متن "سفر العباءة" و"سفر التبة" و"سفر العنفوز" الوان ادبية ومسرحية وغنائية وتشكيلية ابدعت تجسيدها الرسامة مشاعل الفيصل التي رسمت لوحات الاغلفة الثلاث وكذلك الشخصيات المضمنة داخل الرواية.
تتغيّر الازمان ربّما لكن رفض من يفكّر خارج الصندوق يظل ثابتا
ساحرة عوالم كاتب الاسفار، نصه يرشح بالشخوص والحكايات، عوالمه مغرية، يكتب بانسيابية ولغة تثير الحواس، يستعمل بعض الكلمات الموغلة في المحلية ويغلفها بأسلوب يقنع القارئ ايا كانت ثقافته ومدى معرفته بتلك العوالم، في نصوصه يدافع كاتب الاسفار عن المعرفة والعلم رغم سيطرة الاسطورة التي يمثلها الصاجات في العهد القديم وسيطرة تجار الدين في العصر الحديث مثلهم رقابة الدولة ايضا، فرغم اختلاف المسميات تبقى محاولة السيطرة على الفكرة الحرة المنفلتة هي الميزة.
يكتب "الصادق بوحدب" المتخيل بلسان سعود السنعوسي اسطورة الصاجات واكبرهنّ ام "اللوّه" التي يعطيها اسما اخر هو "ام حدب" وبنياتها الثمانية، لهنّ طريقتهنّ في التأثير في الناس والمداوات، صاحبات قرار وتأثير ولهنّ طقوسهنّ في يوم "السديس" ذاك الطقس الذي يجمع بين الشعوذة وحفلة الزار ومنه يدّعين معرفة الغيب ويسطّرن حياة الناس، هؤلاء الصاجات اللواتي يرمزن الى الشعوذة ينفرن "سعدون" بعد ان تكويه "ام حدب" على اذنه اليسرى بتعلة دخول البريغصي" الى جسده.
يقابل الشعوذة سلاح اخر هو سلاح الدين والتطرّف، يمثله "كريم العين" في السفر الاول "سفر العباءة" وأحفاده في السفر الثالث "سفر العنفوز" فالملا كريم العين ينبذ سعدون الطفل لكثرة اسئلته، يتهمه بالجنون لانه يحدّث الله وينصت اليه، يكفرون الطفل حدّ ان يطرده والده من البيت يتهمه الزندقة، "سعدون" يرمز الى الاختلاف، الى طرح الاسئلة ومحاولة فهم النص الديني دون حفظه "كيف يحفظ ما لا يفهم، انا لا احبّ ما لا افهم"، ينبذ الطفل/الشاب "تيقن الملا ان سعدونا مخبول لا محالة ولما استغفلت اسئلته على اجابات الملا سلك اقصر السبل الى السماء وصار يسال الله"، فسعدون الباحث عن جدوى استعمال العقل بنبذ الى "الحوطة" وهناك يقرأ ويمارس طقوس التفكير "الشك لو احسنت معافرته كان سبيلك الى الحقيقة والقلق في ما بينهما اول قطاف الفهم"، هذه الشخصية المفكّرة تنبذ لتموت وحيدة وبعد 70عاما تعبر احدى الشخصيات الرواية لتصلّي عليه صلاة حقيقية "ان ازور قبر سعدون فاصلي عليه صلاة صحيحة بدل صلاة ثلاثة سكارى وصبيّ صاجّات، يهودي ومسيحي وعاهرة وبرثني" فالمختلف المنبوذ وحده استطاع توحيد كلّ المختلفين في رحاب عقله.
يتغير الزمن من 1920 الى 1950 لكن محاربة الفكر الحرّ تبقى متواصلة، ف"الصادق بو حدب" ينبذ من مجتمعه لانّه كتب بجرأة وتحرر من تلابيب الاسطورة وعباءة الخوف من العادات وتقديس الماضي، فيتهم بالكفر ويدعوا شيوخ الدين المصلين للبصق عليه بعد نعته في خطبهم بأبشع النعوت "فصدح صوته يذم حملة الاقلام الذين ما خافوا الله فيما يكتبون المحرضين على الرجس والمجون، وأطال الخطيب خطبته حتى جاء على ذكر الكتابين سفر العباءة وسفر التبة وتوعد كاتبهما بالويل والثبور ورماني بالكفر وهو يشاهدني في الصف في المسجد" ، فأصحاب العباءات هنا ان كانوا صاجات او رجال دين، اختلفت اسمائهم وانتماءاتهم وأسلحتهم ولكنهم لم يختلفوا عن رفض كل فكرة مختلفة ورفض كل من يرغب في استعمال عقله ليفهم "ألبس الملاّ عباءة واعطه سعفة يصير صاجّة، او امنح الصاجة لحية ودشداشة قصيرة تصير ملاّ".
يمزج سعود السنعوسي في اسفاره بين التاريخ الحقيقي "معركة الجهراء" والصراع بين حاكم الكويت والاخوان، ثم ملامح الازمة العراقية الكويتية عام 1990 لينتقل الى عوالم الغرابة والخيال، يتفنن في صناعة نصّ روائي مميز، نص روائي يكشف جماليات اللغة وقدرتها على الابداع، لغة مينتة وحكي يغري القارئ للبحث في بقية نصوص سعود السنعوسي واكتشاف ملامح المكان عبر اللغة.
رواية "اسفار مدينة الطين" باجزائها الثلاث هي الاصدار الادبي السادس للكاتب الكويتي سعود السنعوسي بعد "سجين المرايا" و"ساق البامبو" "فئران امي حصوة" و"حمام الدار"، احجية بن ازرق" وناقة صالحة".