الكتابة سلاح للتغيير وربما حلم بإعادة تفكيك البلد والمنظومة والمجتمع والأعراف واعادة تركيبها لحياة افضل حتى لا نطرح سؤال بلسان زيدان "فتعب هي الحياة شقاء وقساوة هدت ضلوعي واتعبت فؤادي واستحالت الامنيات سرابا على باب الضياع فما حيلتي في هذه الدنيا وقد الفيت نفسي قشة في مهبّ الريح؟" ومن الرغبة في التغيير يكتب مراد البجاوي شخصياته ونصوصه.
يبدع مراد البجاوي في التجريب في روايته الجديدة " مددا، مددا" منذ العنوان يجبر البجاوي قارئه ليتوقف قليلا ويطرح السؤال عمن يطلب؟ المدد وممن يطلبه؟، قبل العنوان للغلاف سحره الخاص ورمزياته المتعددة، في الغلاف صورة لرجل مدبر الى الامام وامامه مساحة من الضوء ويجر حملا ثقيلا عبارة عن مفتاح، اهو مفتاح المكان؟ ام المفتاح الرمز للامل؟ ام حمل المدن وتعبها تحملها الشخصية جميعها اسئلة يطرحها القارئ قبل ان تبدأ رحلة التعرّف على الشخصيات والحكاية.
هل يتسّع البلد للجميع؟ وهل فكرة التغيير قابلة للتنفيذ؟
يكتب مراد البجاوي باسلوب يعتمد على التكثيف والترميز، في روايته الجديدة يوغل في التجريب والغرائبية، يستعمل شخصيات غريبة ويمزج بين الواقع والخيال حدّ السؤال عن مدى حكمة الشخصية من جنونها، سيد الحكاية "زيدان" استاذ امضى العقود الكثيرة لتدريس التلاميذ وتعليمهم ابجديات الحياة وثقافة الحب والوطنية لكنه اصطدم بواقع مزعج واقع مسخ فقرر ان يغير العالم انطلاقا من مدينته الصغيرة وقرر ان يقضي على الفساد في بلده " تيقنوا انني ساواصل النضال لاجتثاث اخر رموز الفساد من هذا البلد العظيم" وسينفّذ قراره عن طريق ترك المدينة والناس والهجرة حيث العدم اين تكون الطبيعة وحدها سيدة القرار والمكان والفعل.
منذ البداية يضع البجاوي قراءه في وضعية السؤال والرغبة في اتمام الحكاية، فاول كلمات الرواية " "اجر يا زيدان اجر ولا تلتفت الى الوراء، اياك والتردد" وضعية الجري والخوف ستزداد مع تقدم الاحداث لما ستعيشه الشخصية من وضعيات مزعجة ومنهكة للروح والجسد، ويبدو ان البجاوي لا يريد لقارئه الراحة فينهي روايته بنفس جملة البداية، حركة دائرية كما دورة الحياة تبدأ بالجري وتنتهي به، فلا راحة في البلاد المليئة بالفساد والظلم والمحسوبية كما تقول الشخصية وهي تهجرها.
منهكة هي الرحلة التي سيخوضها زيدان والقارئ يتبعه محاولا فهم سبب الحدث او زمان وقوعه، الانفاس مكتومة فاغلب الاماكن مظلمة قاتمة، من الغار الى السجن وعربة السجن فالزنزانة والغرفة الضيقة في المحكمة، باسلوب شيّق وضع الكاتب شخصيته المحورية والقارئ في فضاءات ضيقة على الجسد لكنها تمنح الروح مساحة للرحيل والفكر لطرح السؤال.
الفضاءات المكانية الموجودة في متن الرواية هي تونس كما رآها الكاتب على لسان شخصيته، تونس الفوضى والفساد الاخلاقي والاجتماعي، تونس التي تراجعت فيها قيمة الفن قبالة انتشار اهازيج الملاعب الرياضية، تونس التي يعيش مواطنيها عفكرة السجن فيّ وقت، فالكل متهم في انتظار لحظة الايقاف فيقول ظيدان متحدثا "استعدي لان تكوني الفاعل دون فعل، وان تتحمّلي عبئ المفعول به دون تهمة، وان تغدقي على جلاديك لغو المهانة، وان تنسي اصلا لماذا تمّ اقتيادك الى قاعة جحيم المهانة، فقط لا تنسي انهم اذا اطمأنوا لفقدك الحسّ في الجلد والمؤخرة والفرج والدبر سيهنئونك بالبراءة وعدم سماع الدعوى".
بين الواقع والخيال تصنع الشخصية عوالمها، يحلم زيدان بتغيير واقعه وانقاذ بلده من الفاسدين، يفكر في اصلاح المواطنين افرادا وجماعات، يحلم بذلك حدّ ان يرى نفسه المنقذ الاول والوحيد، ولكن حتى الحلم يعد جريمة لذلك يجد نفسه خلف القضبان بتهمة الافراط في الحلم، او الحلم بالتغيير " "لاحت لي كل الطرق مؤدية الى التحقيق، اذ في البلد يستوي الواقع بالحلم، فالواحد منا ملاحق في نغص الحياة تماما كما هو في ورطة الاحلام".
كيف نهرب من المسخ؟
ينقد البجاوي على لسان شخصياته واولها زيدان المشهد السياسي لبلدجه، يكشف المسخ في الاخلاق والتحولات المجتمعية المزعجة والتسارع نحو اللهفة والاثراء غير المشروع والتحيل على القانون لخدمة المصلحة الفردية وغيرها من المواضيع الموجودة في مجتمعه، باسلوب روائي يعتمد التكثيف والكثير من الرمزية يشير البجاوي الى هذه العلات ويحاول عبر شخصيته طرح بدائل للتغيير ولكن فكرة الاصلاح تبدو مستحيلة لتفشي وباء الفساد وعدم ايجاد لقاح له، فالكل متورّط في منظومة انانية ولا اخلاقية.
يختار البطل الهروب اوّلا علّه ينجي نفسه من بؤرة المسخ تلك، لكن بمجرد بقائه مع افكاره يتغير قراره ليحلم ان يكون منقذ البلد، فتخامره فكرة استقطاب كل الناس الى غار منسي وسجنهم هناك حتى يفنوا ويعتمد في مشروعه على خنفساء الريح بفضل الرائحة النتنة التي تصدرها فهو يؤمن ان الطبيعة تشاركه مشروعه وبالفعل ينطلق في التنفيذ "انا مصر على مشروعي القائم على تبديل الحاصل الى ما هو افضل وهو الاهم من المشاريع السياسيين الذين اذا تكلموا كذبوا، واذا وعدوا اخلفوا واذا ظهروا نافقوا واذا كسبوا تواروا عن الانظار باسم هيبة السلطة التي لا مساس في قيامها وهي القائمة بحق الاصوات الجاهلة والمناصرة صفحة" فوحده زيدان يرى انّه يستحق البقاء لانّه يدافع عن النزاهة بينما من الافضل ان تفنى البشرية في الغار وهل هناك خبل اشدّ من هذاظ.
ينحت مراد البجاوي لروايته ابعاد تجريبية حد الغرابة، يتفنن في تعذيب شخصياته ويدفعها لتعايش وضعيات مختلفة مؤلمة للعقل والجسد معا، يربك قارئه فكلما اعتقد انه وصل الى حل للمشكل يجد نفسه امام حيرة وسؤال جديد، فهل حقا زيدان قاتل؟ وهل تحوّل الحلم الى حقيقة؟ هل فعلا يدفع الانسان ضريبة على الحلم؟ ام الشخصية تعاني فصاما وربما بدايات جنون؟ وهل نحن حقا هو حرّ ويمكنه التعبير بحرية ام الحرية ايضا اضغاث احلام حتى يطرح اقرار مفاده ""انتبه يا زيدانن فاليوم اذا ظننت انك صوت حرّن فلا تجزع ان جنيت سلب الحرية منك باسم القانون نعم وبكل تاكيد فالقانون في العالم يمنح القائمين عليه ما لا يمنحه اياك".
متعبة احلام زيدان وحكاياته، تتطلب الكثير من الجراة للدخول في يمها ومحاولة تفكيك رموزها، حكاياته مغرية وفي الوقت ذاته تشرّع نوافذ السؤال الابدي.