ينتمي إليه ناشطا ضمن جيل مخضرم من طليعة المدافعين عن المشروع الحضاري الحديث لتونس المستقلة. زمن قريب كان فيه الأمل في الديمقراطية والعمل على تحقيق الحرية وحقوق الإنسان ممكنا وليس تهمة وجريمة تستحق السجن وربما الشنق!
مثقف متميز، عليم، واسع الاطلاع لكن متواضع، غير مدعي، قلمه ممتاز لغته جميلة، عباراته منتقاة، نصوصه مختزلة ولكن بليغة، قد لا تكون دائما في مستوى الإدراك العام. لم يكن لسي حمادي بن سعيد منصب أو رتبة سياسية، ولكنه سياسي من الطراز الأول، ملم بدواليب السياسة وبتاريخها ليس فقط لأنه تلقى علومها على مقاعد جامعة الصوربون وعلى يد أستاذه، ثم صديقه، ريمون أرون صاحب المدرسة السياسية الذي ضل يذكره دائما، ولكن أيضا لأنه، منذ صغر سنه، اختلط بالمناضلين والسياسيين من جيل الاستقلال وما بعده الذين ناضلوا بالصوت وبالقلم من أجل مشروع مشرف لتونس وللتونسيين، مواطنين لا رعايا. بالكلمة والقلم واجه سي حمادي بن سعيد ضمن ذلك الجيل تسلط نظام بورقيبة عندما هرم ولم يبق منه ومن مشروعه إلا ضل عنيد لم يعد يملك من القوة إلا القمع.
إلى تلك المدرسة في الصحافة والسياسة كان ينتمي سي حمادي بن سعيد، مدرسة التعددية الحقيقية والرأي الصريح والحر قدر الإمكان. صحفي، مؤسس مجلة "ديمقراطية" الناطقة بالفرنسية، وسياسي كان ينتمي إلى "مجموعة الرأي" والمستقلين، ولكنه يقف عند حدود الصحافة وخطوط السياسة لا يخلط الأدوار. متمسك بعلاقاته مع السياسيين، صريح في مواقفه، غير متزلف، لا ينخرط في مآدب التهليل والتكبير. لم تكن الصحافة والسياسة زبونية يتقاضى عليها أجرا أو يكافئ بمنصب. لم يحد عن مبادئه ولم ينقلب على رفاق الأمس. ضل قريبا من المعارضين حتى عندما قربته السياسة من الحاكمين.
ذاكرة متيقظة ومعرفة بتاريخ السياسة والسياسيين، متابعا لأحوالها ملما بأطوارها، شاهدا على بعض فصولها، ولكن مع الأسف ذاكرة غابت دون أن تدون أو تحفظ.
رحل سي حمادي بن سعيد الصحفي المثقف والرجل الراقي الخلوق.
كثيرا ما نلعن زماننا برَما برداءته، وكثيرا أيضا ما ننسى شموعا مضيئة لا نراها إلا بعد أن تنطفئ.
وداعا سي حمادي الأب الصديق.