دونالد ترامب الثاني أوامر رئاسية بتفكيك سياسات الديمقراطيين والرجوع إلى مقولة "أمريكا أولا"

شكلت مراسم أداء اليمين في واشنطن يوم 20 جانفي من قبل الرئيس الأمريكي الجديد دونالد ترامب مشهدا من نوع جديد شارك فيه،

حسب التقاليد، الرؤساء السابقين والرئيس المتخلي جو بايدن ونائبته المهزومة في الانتخابات كامالا هاريس وكذلك أعضاء الحكومة الجديدة. لكن ظروف تنظيم المراسم داخل الكابيتول بسبب قسوة البرد غير من نوعية الحضور حيث شارك عدد كبير من المناصرين ومجموعة استثنائية من كبار المليارديرات الأمريكيين والأجانب.

وأخفت، في الواقع، ضخامة المشهد، وكذلك النمط الاحتفالي، أمراض الديمقراطية الأمريكية التي تشكو من تراجعها في حقول عديدة اقتصادية وتكنولوجية إضافة إلى مديونية الدولة الفدرالية التي تفوق 3000 ترليون دولار والتي تعمقت مع كلفة الحرب في أوكرانيا وصعود منافسة الصين على المستوى الدولي. وهو ما جعل حزب المحافظين يعطي مجددا المقود لدونالد ترامب الذي اعترف في خطابه الافتتاحي، بأن "التدهور الأمريكي انتهى" وأن "العصر الذهبي الأمريكي بدأ". الإقرار بالتراجع الأمريكي على أعلى مستوى يفسر طريقة الرئيس ترامب في إخراج مشهد ولايته الجديدة بتوقيعه على قرابة 100 مرسوم رئاسي جديد في يوم واحد لإبراز ضرورة التحرك الفوري لإنقاذ الموقف.

هذا الوضع ينسجم مع نوعية الحملة الانتخابية التي ارتكزت على المغالطات والكذب وبث الإشاعات والخطابات العنصرية والتعدي عن القوانين والمؤسسات. وهو امتداد للهجوم المبرمج يوم 6 جانفي 2021 على الكابيتول ومحاولات التنصل من عديد القضايا العدلية الموجهة لدونالد ترامب الذي نجح في الحصول على أغلبية أصوات الجمهور والإفلات من العقوبات الجزائية المبرمجة بمساعدة المحكمة العليا التي كسب تعيين أغلبية من الحكام في صلبها، في ولايته الأولى، لصالحه.
تفكيك سياسة الديمقراطيين
الخطوط العريضة للخطاب الافتتاحي وتوقيع المراسيم الرئاسية أكدت توجه دونالد ترامب نحو إعادة العمل مع سياسة "أمريكا أولا" وذلك بتفكيك سياسات الديمقراطيين التي تم إقرارها من قبل جو بايدن. فقد عمد ترامب إلى إبطال 78 قرارا رئاسيا لجو بايدن وإعلانه عن توجهات جديدة انعزالية منها التراجع عن المشاركة في قمة المناخ والرجوع إلى استخراج المحروقات الجوفية والتراجع عن عدد من القرارات الداعمة للتحول الإيكولوجي. وقرر الرئيس الأمريكي، في خطوة مفاجئة، الخروج من منظمة الصحة الدولية.
وكان خطابه موجها بالأساس لجمهوره الذي عبر عنها بوقوفه وبهتافاته المبرمجة التي قادها بوضوح نائب الرئيس فانس. وكان قراره الأهم يتمثل في "طرد ملايين وملايين من المهاجرين". وقرر ترامب في هذا الصدد إعلان حالة الطوارئ على الحدود مع المكسيك ووقف التعامل مع ملفات اللاجئين فورا. وكلف وزير الداخلية ووزير الدفاع بالتنسيق في إرسال وحدات من الجيش لمساعدة الشرطة على ضبط الحدود في انتظار عمليات طرد المهاجرين غير النظاميين وملاحقة أفراد العصابات الإجرامية التي أدرجها في قائمة الحركات الإرهابية. ووقع في نفس الإطار على قرار يبطل التعامل مع "حق الأرض" الذي يمنح الجنسية الأمريكية للذين ولدوا، وهم من أصل أجنبي، على الأراضي الأمريكية.
وكما وعد خلال حملته الانتخابية، وقع ترامب على قرار رئاسي بالإفراج عن 1500 سجين من بين الذين شاركوا في الهجوم على الكابيتول يوم 6 جانفي. وكان قد اعتبر أنهم "رهائن" بالرغم من الأحكام التي صدرت في شأنهم إثر محاكمات اعتبرها الجميع عادلة، في خطوة تمس مباشرة من نظام العدالة الأمريكي الذي لاحق ترامب في عديد القضايا المتعلقة بإجراءاته وتحركاته لإبطال انتخاب جو بايدن أو بمعاملاته الجنسية والضريبية. ووقع، من جهة أخرى، قرارات لإلزام الموظفين في القطاع الفدرالي بالعمل في مكاتبهم عوضا عن طريق النظام الإلكتروني كما جرت به العادة بعد جائحة كورونا. وجمد كل المعاملات والقرارات الإدارية في انتظار استكمال السيطرة على الإدارة.

من العولمة الاقتصادية إلى العولمة الشعبوية؟
القرارات الرئاسية الأولى تشير إلى توجه جديد من البيت الأبيض يعتمد الشعبوية التي تؤكد على الدفاع عن المصالح الأمريكية قبل كل شيء وتنفر من مبادئ تقاسم الأدوار والمشاركة في القرار على الصعيد الدولي. وهو ما يفسر حضور عدد من كبار المسؤولين، على غير العادة في مثل هذه المناسبات، من إيطاليا والمجر والأرجنتين التي تشارك ترامب توجهاته الشعبوية، على اختلاف ممارساتهم السياسية. بلدان ليس لها وزن دولي يمكن الرئيس ترامب من تشكيل قوة بديلة ضاربة، لكنها مؤشر على تحالفات عابرة للأقطار يمكن أن تسفر إلى توازنات دولية جديدة. وهو ما يفسر إعلان ترامب رفض التعامل مع الاتفاقات المبرمة سابقا مع منظمة التعاون والنمو الاقتصادي التي شاركت فيها الإدارة الأمريكية السابقة مع أكثر من 100 دولة لتنظيم سقف أدنى للضريبة على الشركات الكبرى. وقال ترامب عند توقيعه قرارا رئاسيا بأن "هذا القرار يسترجع سيادة وقدرة بلادنا على المنافسة الاقتصادية مع التوضيح أن الاتفاق المالي الحاصل ليس له قوة أو فاعلية في الولايات المتحدة".
وهو ما يفتح الباب أمام الضرائب الجديدة المفروضة على المكسيك وكندا بنسبة 25% في حين تعتبر هذه البلدان من أهم الشركاء الاقتصاديين. وإن لم يوقع ترامب على رفع ضرائب ومراسيم جمركية جديدة ضد المنتوجات الأوروبية والصينية، فإن الدول الأوروبية تخشى أن تدخل في حرب اقتصادية مع الولايات المتحدة الأمريكية وهي لا تزال تتخبط في حرب على حدودها في أوكرانيا. وإن كان ترامب قد أشار إلى إمكانية "إيقاف الحرب في أوكرانيا في 48 ساعة" فإنه اكتفى بالقول أن الرئيس الأوكراني زيلنسكي يريد التوصل إلى اتفاق سلام" ولكنه لا يعرف "إن كان الروسي فلاديمير بوتين يرغب في ذلك" مضيفا أن الرئيس الروسي "هو بصدد تدمير روسيا برفضه التوصل إلى اتفاق". وهو ما يعني أن ترامب ليس له آليات لفرض حل في أوكرانيا وأن هذا الملف سوف يأخذ منه وقتا هاما في التفاوض لإيجاد صيغة للخروج من حالة الحرب المتواصلة والتي صرحت أوروبا وبريطانيا مواصلة المشاركة فيها عبر الدعم المالي والعسكري لكييف.
ما لم يدرجه ترامب في خطابه وفي قراراته الموقعة، خلافا لتصريحاته السابقة، هو ملف الغروين لاند الذي طالب بإلحاقه بالتراب الأمريكي. لكنه صرح لبعض الصحفيين عند وصوله للبيت الأبيض أن "الغروين لاند منطقة مذهلة نستحقها لأغراض أمنية دولية" مضيفا أنه «متأكد أن الدانمارك سوف يفهم ذلك" ويتخلى عنه. وهو ملف شائك رفض الإتحاد الأوروبي الخوض فيه مؤكدا على ضرورة احترام القانون الدولي الذي يحمي الحدود القائمة. هذا الملف ليس الأوحد الذي لم يحسم فيه بعد دونالد ترامب. هنالك الملف الصيني والملف الإيراني وقضية النزاع في الشرق الأوسط. وهي ملفات ساخنة تأتي في المرتبة الأولى على الأجندة الدولية. واكتفى ترامب بتوقيع قرار إعفاء لصالح المستوطنين الإسرائيليين في الضفة الغربية من العقوبات التي فرضتها عليهم إدارة جو بايدن.
أقلية حاكمة

الشيء الذي أصبح واضحا في تشكيل السلطة الأمريكية الجديدة هو قربها من جملة من المليارديرات الكبار وتعاملها معهم. فقد حضر مراسم أداء اليمين عدد كبير من أثرياء العالم في مقدمتهم إيلونماسك، الداعم الأول لحملة دونلد ترامب والذي كان يقف جنب إبن الرئيس وكذلك رئيس شركة "أمازون" جيف بيزوس ورئيس شركة "ابل" تيم كوك و رئيس "ميتا" مارك زوكربرغ و المدير العام لشركة "غوغل" سونداربيشاي وغيرهم من كبار الأثرياء. وهو ما ذكره الرئيس جو بايدن في خطابه الأخير يوم 15 جانفي عندما حذر من "الأقلية المتسلطة المتكونة من كبار الأثرياء الذين لهم السلطة والنفوذ" والذين اعتبرهم تهديدا للديمقراطية الأمريكية.
هذه المجموعة من الأثرياء المستحوذين على شبكات التواصل الاجتماعي وشبكات الأنترنت والمنصات الإلكترونية العالمية يمكن أن تصبح "أقلية حاكمة" وقوة ضاربة في يد البيت الأبيض، ولو هي متنافسة فيما بينها على افتكاك سوق التكنولوجيا.لكن يبدو أن حضورهم جميعا في الحفل يعطي إشارة على تشابك السياسي والمالي في صنع القرار الأمريكي في المستقبل. لأ ن أحد وجوه النزاع على المستوى الدولي هو التحكم في التكنولوجيات الحديثة وخاصة نظم الذكاء الاصطناعي التي تشارك في صنعه أوروبا والصين. تعيين إلون ماسك كمسؤول حكومي له مكتب في البيت الأبيض و20 موظفا، مع الحفاظ على مسؤولياته على رأس شركاته الكبرى، يدخل السياسة الأمريكية في مسوى لم يسبق أن عرفه أي نظام ديمقراطي من تشابك بين المصالح الخاصة والمصالح العمومية.
سياسات متضاربة

قرارات دونالد ترامب الأولى لم تخل من تضارب في الأهداف وإمكانية التحقيق. فبعضها يتعارض مع الدستور مثل إلغاء "حق الأرض" والطرد التعسفي للاجئين. وأخرى تتعلق بالتضارب بين فرض ضرائب مجحفة على الإيرادات من كندا والمكسيك بنسبة 25% مع مطالبة الحكومة بالعمل على التحكم في التضخم وتخفيض الأسعار. قرار ترامب إبطال مشروع التخلي عن 50% من السيارات المستعملة للبنزين عام 2035 لا يتماشى و مصالح دونالد تاسك الذي يصنع السيارات الكهربائية في شركة "توسلا" التي يمتلكها.
من ناحية أخرى، إعلان ترامب أن الولايات المتحدة لن تدخل في حروب في عهده يواجه رغبته في فرض توجه إمبريالي (استرجاع باناما و الاستحواذ على غروين لاند وضم كندا) وهو توجه لا يختلف عن السياسة الروسية الإمبريالية في حربها على أوكرانيا وضم جزء من ترابها. وهو كذلك نفس التوجه الإسرائيلي في الأراضي الفلسطينية، وكأن العالم دخل في عهد إمبريالي جديد يمكن أن يفضي إلى حروب جديدة في بانما والمكسيك وأوروبا مجددا مع الإعلان عن نية فرض السلام. وكأن الخطاب السياسي الأمريكي أصبح نوعا من المقولات في الخيال العلمي تستخدم في ميدان السياسة الدولية في انتظار الدخول في الحياة الواقعية.

المشاركة في هذا المقال

Leave a comment

Make sure you enter the (*) required information where indicated. HTML code is not allowed.

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115