العرض الاول لمسرحية "كيما اليوم" اخراج ليلى طوبال قبل ان نفنى هل حقّا عشنا؟

انصت لروحك وحوّل انينها الى قوّة، استمع لموسيقاك الداخلية ومعزوفاتك نبضك ومنها اصنع لحنا للحياة والمقاومة،

كن بشرا، حافظ على "بائك" قبل ان تمحى وتسقط في هوّة الشر السحيق، بعدها ستكون انسانا حمّالا لقيم الجمال والحرية، فقط كن صادقا مع ذاتك وامنح لنفسك حقها في التجربة والحياة، فالحياة تستحق ان تعاش وتستحق التجربة هكذا تقول اجساد الممثلين على الخشبة، فلكل جسد روح تسكنه ولكل روح يوم "كيما اليوم" ولد وعاش وسيفنى.

"كيما اليوم" العمل المسرحي الجديد لليلى طوبال، قدم العرض الاول في قاعة الفن الرابع بالعاصمة انتاج مشترك بين المسرح الوطني والفن مقاومة، من تمثيل الفراشة مايا سعيدان وأصالة نجار ودينا وسلاتي وفاتن شرودي وخديجة محجوب وأسامة شيخاوي، كوريغرافيا عمار لطيفي ومهندس اضاءة صبري العتروس وصوت محمد هادي بلخير ومابينغ محمد بدر بن علي وتوظيب الانتاج رضوان بوليفة وملابس مروى منصوري وجرافيك سيف الله قاسم ومساعدة اخراج امان نصيري.

الكلمة معيار للتغيير

تبدع الكلمات في معالجة الوجع والنبش في جراح الذاكرة، تصنع اللغة محرابا للحب يصلّي داخله القديسين والعشاق، عشاق الانسانية تحديدا، الشعر لغة للحب والحلم والكلمة الموغلة في الشاعرية هي نقطة الانطلاق الاولى لبناء فعل ابداعي يعالج انسانيتنا ويبحث عن سبب الداء في "باء" البشر.
للغة سحرها وجماليتها والشعوب العربية تتفنن في اللعب بالكلمة والرقص على ايقاعاتها ورمزياتها ومن جماليات اللّغة وبحورها الممتدة انطلق نص ليلى طوبال يكشف انانيتنا ويعرّي وجيعتنا ويحاول البحث المشترك عن منفذ او مخرج لنعيد للانسانية بريقها.
"كيما اليوم" هو اسم المسرحية، تنطلق بطرادة بصوت ليلى طوبال التي تقولها بإحساس حقيقي "كيما اليوم جيت، كيما اليوم عشت، كيما اليوم فنيت"، فتنسجم انفاسها مع كل كلمة منطوقة وكأنها صوت للحكمة تصغي لها بقية الاذان دون معرفة مصدر الصوت، اجساد منتشرة في المكان تنصت للصوت وعلى ايقاعه تتحرّك.
ينطلق العمل بالإشارة الى فضاء للعب دون تحديد ملامحه فقط مجرد رمز، في زمان ما، في تونس ستتعرض البشرية للانقراض، يحاول الناس انقاذ البشرية فتتبرع النساء بالبويضات ويتبرع الرجال بحيواناتهم المنوية لحفظها في مكان تحت الأرض، لكن الشاحنة تنقلب وتموت كل البويضات والحيوانات المنوية، فقط اثنين سينجوان، ومنهما ستتكون "دنيا" التي ستحبل بها الارض وتلدها، دنيا لن يحملها رحم انثى بل سيحملها رحم اكثر تشعّبا، رحم الارض امنا جميعا وحين يكمل الجنين نموه تلفظها من جوفها الى سطحها وتطلب من الناس الباقين رعايتها والحفاظ عليها وعلى سلامتها ومن هناك تبدأ اللعبة المسرحية ومعه الوجع الانساني ولصراع الدائم بين الخير والشرّ.
جسد الممثل ذات مبدعة
اربع شخصيات تنتفض في مكان ضيق، تحاول الخروج وتبحث عن سبيل للنجاة "تخنقت نحب نخرج" كما تقول الشخصية، جميعهم يريد ايجاد الطفلة "دنيا" التي انفتحت الابواب فجأة وابتلعتها الأرض، بقي فقط سرابها وذكراها، وتحاول الشخصيات الباقية على الارض ان تواصل الحياة، لكل شخصية ملامحها وعالمها الجد مختلف عن البقية، ثلاث شخصيات نسائية وشخصية رجالية، جميعهم يريد النجاة، فيتصارعون من سيقود المجموعة، من سيعرف الطريق للنجاة ومن سيكون دليلهم لإيجاد دنيا الطفلة والدنيا الاكبر وأثناء لحظات الصراع والمصالحة سيتعرّف المتفرج على وجيعة كل شخصية.
اولى الشخصيات "اوركيدا" الهادئة والموغلة في ماضيها، شخصية تبدو ساذجة وبسيطة التفكير والمنطوق تتلخص كل حياتها في انتظار خروج حبيبها اسماعيل من الكهف، لحظة الانتظار اصبحت ساعات وأيام وسنوات، وبدأت اوركيديا تتعب وتشيب وهي واقفة على ماضيها، الشخصية معجونة بالوجيعة، وجيعة الانتظار والموت التدريجي اتقنت ملامحها الممثلة فاتن الشرودي، فاتن المتمكنة من الياتها التمثيلية وتقنياتها البداعية اعطت لاوركيدا الكثير من روحها لتكون الشخصية متميزة على الخشبة.
الشخصية الثانية لطفلة ترفض ان تكبر، طفلة تحاول تجاوز وجع الجسد وظلمة المجموعة، طفلة تحمل اسما جميلا "بيسان" تهمتها الوحيدة انها ابنة لامرأة اوروبية قررت هجران ابيها وتركها ضحية لمجتمع لم يرحم طفولتها واستغل بياض بشرتها والتهم جسدها ونهشه كما شاء، بين الطفلة المتمردة وأصالة النجار الكثير من الشبه فكلتاهما شغوفة بالحياة والتجديد، وكلتاهما تنتقل بسلاسة بين خط الفرحة والوجيعة.
الشخصية الثالثة لجنات، الانثى المتمردة على المنظومة المجتمعية، ترفض فكرة الزواج التقليدي وتحاول نحت قيمها بعيدا عن عادات المجموعة، لكن مرض امها يدفعها للانصياع للجماعة، التشتت الذي تعيشه جنات نقلته الممثلة لتكون صوتا لكل انثى تعيش التشظي بين احلامها ومبادئها وعادات المجموعة، انثى قيادية رافضة لأفكار بالية ولكنّ المجموعة تحاول ان تكون اقوى وتيارها اشد الما وظلمة، هكذا تبرز جنات للجمهور، شعلة للثورة والرفض.
اخر الشخصيات لميلود، لمريض النفسي او طبيب فالشخصية تنتقل من العقل الى الجنون، ادعى انه الاكثر قربا وخوفا على الطفلة دنيا، "ميلود" الراقص من حوّل الالم الى لغة مختلفة، صنع من الوجع لوحات كوريغرافية وترك لجسده كامل الحرية ليبوح بقصصه وانتهاكاته، الشخصية قدمها اسامة الشيخاوي الممثل-الكوريغراف والحركات المتقنة للرقصات ولكيفية تحرك اممثل فوق الركح تكشف الحرفية والصدق في التعامل مع كل شخصية جديدة، "ميلود" يشبه كثيرا المنبوذين لسبب ما، حاولت الشخصية امتصاص حكاياتهم وأفكارهم وأعادها الممثل للجمهور عبر الجسد ولغته المنفلتة.
اربعتهم يمثلون نماذج مختلفة من البشرية، يختلفون شكلا وفكرا ويشتركون في الحفاظ على الجنس البشري، اربعتهم محجوز في مكان ما، متاهة نقلت ملامحها عبر السينوغرافيا، فاخر الركح جدار مجوّف به الكثير من الثقوب التي يتسلل عبرها الضوء الى المكان، تلك الثقوب الصغيرة هي الحاجز بين سطح الارض وجوفها، هي رمز للضياع الذي تعيشه الشخصيات الباحثة عن سبيل للنجاة.
في المسرحية جميعهم يبحث عن انانيته لذلك يراجع اخطائه ويبحث في كفة الشر ليعرف ان كان سببا فيما يحصل للارض وللانسان، ولحظات المراجعة للذات والوقوف اما مرآة الخطئ هي رسالة المسرحية، فجميعنا نخطئ وكلنا ساهمنا في تراجع قيم الانسانية وحاولنا التخلي عن "باء" البشر ما اوصل الانسانية للحضيض فانتشرت الجرائم وما صمت العالم امام جرائم الكيان الصهيوني الا دليل على سيطرة "الشر" وتخليه عن "بائه".
الانسانية على المحكّ فهل من منقذ؟
"كيما اليوم" هو اسم المسرحية، تاريخ ثابت لأحداث تتخلف من شخص الى آخر، عمل كتب بشاعرية يطرح السؤال عن قيم الانسانية في بعدها الكوني، رحلة تنطلق بالفراشات الزرقاء مع الطفلة دنيا وتختتم بها، فالحياة رغم مطباتها وظلمتها تبقى مساحة للامل والحلم، والانسانية ايّا كانت ظلمة البشر تبقى قيمة برّافة تلمع من جديد متى اراد البشري ذلك.
العمل يضع انسانيتنا على طاولة التشريح القيمي، ومن خلال الاضاءة والموسيقى تحفر كاتبة النص في بواطن شخصياتها وتخرج منهم الحقائق المطمورة، وتحاول رجّهم علّهم يستنهضون القيم داخلهم ويدافعون عن بقاء الانسان، ومتى صحيت الضمائر وفكروا في حلّ جماعي تعود دنيا امرأة جميلة بفستان يحمل كل الوان الربيع، فالحياة مغامرة لطيفة تستحق التجريب، والحياة مساحة للتجديد لكن دون نسيان القيم الانسانية الكبرى التي تدافع عنها ليلى طوبال في كل اعمالها الفنية.
"كيما اليوم" صرخة للحياة ضدّ فكرة الانهزامية، دعوة صريحة للنهوض من كومة السلابية وتحويل الرماد نارا ملتهبة وحالمة، صرخة ضد الموت ودعوة لانقاذ الانسانية من انانية الانسان، فالربيع يقبل دوما.

 

المشاركة في هذا المقال

Leave a comment

Make sure you enter the (*) required information where indicated. HTML code is not allowed.

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115