ومآلات الحرب الروسية الأوكرانية خير دليل علي معاناة الأوروبيين أنفسهم من انسياقهم وراء الأجندات الأمريكية في دوائر جغرافية مختلفة ، ولا نجد الشرق الأوسط والحرب في غزة بعيدة عن السياق السلبي لتخبط الساسة الأوروبيين وعدم إدراكهم لمصالح دولهم في الاصطفاف إلي جانب الحق أو على أقل تقدير مراعاة مصالح أوروبا وعدم الإنحياز لطرف علي حساب علاقاتها بالدول العربية ، فالأزمة السورية وتداعياتها تكشف عن تواصل مبكر من جانب الدول الأوروبية - إيطاليا تزعّمت ذلك التوجه وبريطانيا - مع هيئة تحرير الشام - المدرجة في قوائم الإرهاب- لبحث عن سبل التعاون بين الجانبين إذا ما نجحت الهيئة في فرض سيطرتها في الأراضي السورية ، والتعاون المستقبلي فيما يتعلق بإعادة اللاجئين السوريين المقيمين بالدول الأوروبية ، وتلك الإتصالات لم تكن بعيدة عن لقاءات جمعت المبعوث الأمريكي لشمال شرق سوريا مع قيادة ( قسد ) لبحث مستقبل سوريا في مرحلة ما بعد سقوط الأسد ( الاجتماع تم قبل فراره ) .
وفي ظل التقديرات الخاصة بصعوبة عودة سوريا إلي خانة ' التوحيد والتماسك الجغرافي ' ، هل تدرك أوروبا سيناريوهات تطور الوضع السوري وخطورتها علي أوروبا وأمنها!!؟ فالسيولة المحتملة - سياسياً وأمنياً - ما بعد سقوط نظام حُكم الأسد، قد تدفع نحو التقسيم والأقاليم والإدارات الذاتية ، خصوصاً أن السيطرة علي الساحل السوري، ومنطقة الحكم الذاتي الكردية في شمال وشرق البلاد، قد تستغرق وقتًا طويلًا ونظراً لمحدودية المعلومات عن التوجهات الحقيقية لجبهة تحرير الشام والفصائل المتحالفة معها، لا يوجد توافق حتى الآن بين الفصائل السورية “المسلحة والمعارضة” على نمط الحكم الذي سيحل محل النظام البعثي، وذلك وفقاً لتقديرات مراكز الفكر الإستراتيجي في الدول العربية .
ولعل أبرز النماذج التي من المرشح أن يتحول لها المشهد السوري في المستقبل القريب هو سيناريو مشابه للعراق عقب سقوط الدولة في 2003 أو السيناريو الذي ساد الحالة الليبية عقب حراك 2011.فانهيار النظام السوري يؤشر إلي أن العملية السياسية المتنازع عليها بين الفصائل المسلحة المتمردة ستبدأ، والتي لديها توجهاتٍ إقليمية وسياسية متنافرة ، تدفع في إتجاه المزيد من عدم الاستقرار.
ومن ثم ، قد تشهد الفترة الانتقالية ما بعد سقوط النظام البعثي صراعًا سياسياً ومسلحاً بين فصائل المعارضة “المسلحة والمدنية” السورية جميعًا، وقد تنزلق البلاد إلى موجةٍ ثانية من الحرب الأهلية، على نحو ما يذكرنا بالسيناريو الليبي عقب انهيار نظام حكم القذافي.
وتشير بعض التقديرات إلى أنه بسبب الطبيعة التعددية للتركيبة الدينية والعرقية التي تتسم بها الحالة السورية، فإن أية موجة ثانية للحرب الأهلية قد تأخذ صفة الشمولية على نحو أشبه بـ “حرب الكل ضد الكل".كما لا يمكن إغفال (سيناريو التقسيم) الذي يروق لعدد من الأطراف الإقليمية في مقدمتهم إسرائيل التي تسعي إلي “سوريا غير مستقرة ومجزأة”، على اعتبار أن عملية الانتقال السياسي قد تكون غير سريعة ، ويسودها أعمال عنف محتملة ، بالتوازي مع مساعي الأطراف الخارجية لتشكيل توازن القوى بعد الحرب بما يحقق مصالحها السياسية والإقتصادية.
وفي حين لا تختلف الآراء حول إستغلال تل أبيب سقوط نظام الأسد وتوجيه نتنياهو الجيش الإسرائيلي للاستيلاء علي المنطقة العازلة ( جبل الشيخ ) ، فإن هناك توافقاً جليلً حول حقيقة أن الفصائل المعارضة (المسلحة والمدنية) لها تفضيلاتها واختلافاتها فيما يتعلق بمستقبل الحُكم في سوريا. فمن ناحية، تهدف “هيئة تحرير الشام” ومثيلاتها من السلفية الجهادية إلي استبدال الدولة ' البعثية ' بنظام سياسي يرتكز بالأساس علي مرجعيات دينية .
من المُرجح أن الحالة السورية التي تجعل الشرق الأوسط ونقاط تماسه ( الخليج ، أوروبا ) في مفترق طرق تحولات جيو- إستراتيجية ، قد تسفر في المدى المنظور عن صدامات طائفية متنوعة ، أخذاً في الإعتبار أنه في حين لحقت بإيران وروسيا خسارة إستراتيجية فإن ذلك لا يعني أن دول أوروبا قد حققت مكاسب فارقة وأياً كان القوة التي ستسيطر الساحل السوري إلا أن مخاطر عديدة تنتظر الدول المطلة علي البحر المتوسط.