لقاءات لرتيستو المسرحية مسرحية "اغتراب" اخراج انتصار عيساوي الغربة حين تضع وزرها على الروح تشوّهها وتدفعها الى الجنون

هل سبق وان وقفت امام مرآتك وتساءلت عن هويتك وانتماءك؟

هل سالت نفسك اترتاح في مكانك وزمانك ام انك تشعر بالغربة والاغتراب مما حولك؟ هل سالت ذاتك عن صراعاتك الداخلية وحاولت البحث في اسبابها؟ هل سالت لماذا يعيش الانسان اغتراب داخليا وخارجيا منذ صرخة الولادة الاولى؟ الاغتراب النفسي والاجتماعي والوطني، غربة الانا عن اناها وغربة الذات المنبثة من ذواتها، بحث ابدي عن الهوية وطرح سؤال: من اكون؟ واسئلة اخرى هي التيم الفنية التي عملت عليها المخرجة المسرحية انتصار عيساوي في مسرحيتها "اغتراب".

العمل نص لوليد الدغسني وتمثيل نصيب البرهومي، جيهاد يحياوي، أسماء الوسلاتي، ومنى شنوفي إخراج انتصار عيساوي مساعد مخرج بولبابة الهذيلي واضاءة صبري العتروس وأيمن موسيقى لطفي عمار تصوير محمد العابد وقدم العمل مساء الاحد 8ديسمبر 2024 ضمن لقاءات لرتيستو المسرحية التي ينظمها فضاء لرتيستو لى غاية 11ديسمبر.

الغربة النفسية سبب الصراع بين الانسان واخيه الانسان
الركح خاو من الديكور، فقط الضو وأداء الممثل سيؤثثان فضاء اللعب، من المشهد الاول عملت المخرجة على جمالية الاضاءة وقدرتها على ابراز دواخل شخصياتها، الاضاءة في شكل رواقين مربعين اول الخشبة، كل رواق سيكون فضاء للبوح والعب، تختار المخرجة لشخصياتها فضاء مغلق هو البيت وفيه ستفتح دفاتر الذاكرة الشخصية والجماعية ومن هذه القصص ستنقد الصراعات الانسانية بين الافراد والمجموعات وكذلك صراع المواطن مع السلطة اذ يغوص العمل في خبايا النفس البشرية وينطلق من علاقتها بذاتها ثم عائلتها ومحيطها ووطنها، الصراعات المتكررة والعنف غير المبرر والاسئلة الوجودية والموجعة عليها بنى كاتب النص حكايته وبين الضوء والعتمة حوّلت المخرجة النص الى لعبة مسرحية مدتها ساعة.

ابطال القصة اربع شخصيات، من جيلين مختلفين، الجيل الاول مثقل بالذنوب والحكايات والصراعات يمثله ادريس (نصيب برهومي) وشقيقته علياء (اسماء الوسلاتي)، والجيل الثاني لازال يرسم احلامه ويضع خياراته الخاصة ويحاول ان يكون مستقلا عن قرارات الكبار يتجسد هذا الجيل في شخصيتي اسكندر(جهاد اليحياي) وكارولين (منى الشنوفي)، جيلين مختلفين سيكونان مرآة المتفرج لفهم الصراعات المتكررة ومعه لمس احساس الاغتراب النابع من الذات الى محيطها.
الغربة النفسية والقلق يرافق الانسان منذ ولادته، هو دائم البحث عن مرفأ للامان، هكذا شخصيات المسرحية، علياء انموذج للمراة المتمردة، انثى تحدت المجتمع والعائلة وبحثت عن امانها مع من اختاره القلب فتركت وطنها وسافرت خلف حبيبها وبعد عشرين عاما ستعود من جديد لتبحث عن امانها في بقايا منزل العائلة والذكريات التي جمعتها بالحبيب، ادريس رجل الاعمال هوسه بالمال سيجعله دائم البحث عن امانه لدى اصحاب السلطة والنفوذ ويرتمي في حضن "الشيخ" ويكون تابعه، فالمادة امانه.
اسكندر ابن هذا الجيل يعيش غربة مزعجة فهو يعايش وجع اليتم والم الاحساس بالغربة مع والده وفي بيته، هناك بعد البحر المتوسط يكون امانه وهوسه "بالحرقة" سيكون زاده للشعور بالطمانينة ورغم ان الشخصية لم تصرّح برغبتها لكنها حضرت في الرمزيات عبر القوارب الصغيرة التي يحملها معه وحديثه الدائم عن البحر وما بعده الشخصية الرابعة كارولين هي الاكثر تمزقا فهي لا تعرف انتمائها الى ايّ وطن، اهي فرنسية ام تونسية؟ وبن هذين الجغرافيتين والثقافتين جد المختلفتين تنشأ والفتاة متمسكة بحكايات تونس وجمالها وقيم فرنسا وحريتها، شتات نفسي تعيشه كارولين يتماهى مع ما يعيشه العديد من الشباب التونسي المولودين في دول غربية ويحافظون في الوقت ذاته على ثقافتهم المحلية.
تتصارع الشخصيات طيلة العرض، جميعها توغل في انانيتها وتحاول السيطرة على البقية، من الصراعات الذاتية ينطلقون ليقدموا انموذج عن صراع الاجيال والصراع بين ابناء المجتمع وخاصة الصراع مع السلطة يجسده ادريس بعلاقاته المالية والسياسية المشبوهة، ادريس يركب سطوة السلطة وينصت لأوامرها وينفذها وحين يقرر التمرد تتلاشى مملكته الاقتصادية في ايام قليلة، ما عاشه ادريس مع السلطة تشخيص لوضعيات عديدة من رجل الاعمال الذين باعوا الارض والوطن لأجل مصالحهم الخاصة، فالشخصية باعت ضميرها واخلاقها اكتفت بالطاعة.
في "اغتراب" هناك العديد من الاسقاطات على الواقع التونسي والسياسة التونسية والصراعات لأجل السلطة والنفوذ والمال، فالمسرح صوت للمجتمع والمسرحي ابن بيئته والمسرح التونسي طالما كان منارة للحرية والدفاع عن الانسان وحقوقه لذلك تكون الخشبة مصدحا للحقائق ولنقد المجتمع والمنظومات.

الممثل يصنع جماليات العرض

يبدع الممثل في ملامسة وجع الشخصية واختلاقها يدرس شخصيته ويحاول تقديمها في افضل صورة للمتلقي، يصدق الممثل اثناء اللعب وتلقائيته عادة تكون سبيله للنجاح، في "اغتراب" عوّلت المخرجة على الممثلين لإيصال رسائل العمل، فالركح فارغ تماما من الديكور فقط الاضاءة وأجساد ممثليها وطريقتهم في التعامل مع الفضاء ستكون صانعة الاختلاف وموجهة المتلقي لرسائل المسرحية ورؤية المخرجة، "فالممثل كتلة تشكيلية متحركة ثلاثية الأبعاد، تنتقل من مكان لآخر على الخشبة، وهذه الانتقالة تحتاج إلى فترة زمنية محدودة لكي تتم في الفضاء مشكلة صورية بصرية، تؤدي معناها الدلالي الواضح في التعبير" حسب تعبير عبد الكريم عبود في كتابه "الحركة في المسرح".
يصنع الممثل الفرجة، يتأقلم مع الفضاء وينسجم جسده مع حركة الضوء وتتناص حركات جسده مع منطوق الشخصية لتكون مقنعة، في "اغتراب" يحمل الممثل ثقل العمل وحكايته، ينقل افكار الشخصيات ويجرّب على الركح، لكل شخصية افكارها المختلفة كل منها تحمل قصة جيل بأفكاره وشعاراته ومشاعره النفسية والعاطفية، في العمل تمكن الممثلين من اليات النص وفككوها ليكون اللعب تلقائي وحرفي، وضعوا اجسادهم رهن اشارة العرض المسرحي وملئوه بالحضور والتنقلات الحركية والتعبيرية، صنع جهاد اليحياوي عوالم مغرية للشخصية الصامتة الصاخبة، عرف نصيب البرهومي من أين يمسك بشخصية ادريس وكيف يلعب بحرفية ليكون صادقا ومقنعا، منى الشنوفي اتقنت لغة الجسد الصوت الاوبرالي فتناص ادائها مع الشخصية الفرنسية- التونسية واتقنت الممثلة ذك التشتت بين الفكرين العربي والغربي ووصلت للمتفرج حكايات العديد من الشباب بجديتها في الاداء، كما تميزت الممثلة اسماء الوسلاتي بادائها الرصين لعلياء وتركت لتعابير وجهها الفرصة لتكون بوابة قراءة وجع الانثى العاشقة.
في "اغتراب" صنع الممثلين الفرجة، قدموا للمتفرج العديد من الرموز، تغيرت الادوار فهم تارة الراوي وخرى الشخصية وبينهما مساحات للتواصل والانفصال، الممثلين شكّلوا جماليات ومشهدية باجسادهم ولعبهم ليكونوا شيفرة اخرى تعالج تيمة الاغتراب الذي تناول العمل.

 

المشاركة في هذا المقال

Leave a comment

Make sure you enter the (*) required information where indicated. HTML code is not allowed.

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115