المسرح بوح بالحقيقة وشفاء لجراح الانسانية، على الخشبة تطرح اسئلة "هل نحن احياء ؟اموات في هذا العالم الموحش؟ هل نحن بشر ام حيوانات؟، هل نحن من طين ام من نار؟ نحن مؤمنون ام قوادون، هل نحن ابناء ادام ام ابناء الشيطان؟ وهل نحن بشر؟ هكذا يتساءل حيدر جمعة في مسرحية "الجدار" ليبوح بوجع الشخصيات/المسخ التي كتبها في نصه وأخرجها للمسرح سنان العزاوي.
"الجدار" مسرحية تضع الانسانية على طاولة التشريح المسرحي، من تمثيل الاء نجم ويحيى ابراهيم ولبوة عرب ورضاب احمد اسراء رفعت وزمن الربيعي ورهام البياتي ونعمت عبدالحسين ورنا لفتة ودريد عبد الوهاب واماني حافظ وعراق امين وعبير جبار وشرين سيرواني وسينوغرافيا علي السوداني، والتاليف الموسيقي رياض كاظم وكوريغرافيا علي دعيم وتصميم الازياء زياد العذاري وماكياج بشار فليح وعازفة البيانو اميرة عز الدين.
الممثلين حمّالي حكايات المسخ بأجسادهم وأفكارهم؟
يوغل الممثل في التعرّي، يحمل في داخله كل المتناقضات التي تميز الشخصية، فيبدع في لحظات الفرحة ويوجع الروح وقت الحزن، الممثل حمّال معان وجسده المطية الاولى لقراءة الشخصية المسرحية ومدى تأثيرها في عوالم السرد، في "الجدار" يكون الممثل بمثابة الاله في الميثيولوجيا القديمة يسيطر اللعبة ويحدد عوالم الحركة، يتلوّن بين المشاهد والشخصيات، اذ يعتمد الاداء على الاحساس والوجدان بشكل كبير لتوليد حالات شعورية مرئية ليصل من خلالها المؤدي الى اعماق النفس الانسانية ما يخلق نوعا من الاتصال الحميمي بين الممثل والمشاهد، في المسرحية تتطهّر الشخصيات من وجع اليومي، تفكك المجتمعات وتبرز مسخها وتجبر المتفرج لينصت لذاته وقف امام مرآته ويسالها "هل نحن بشر ام مسخ؟ هل نحن انسان ام حيوانات تتبع الشهوات وترتمي في حضن الرذيلة؟".
اجتمعوا في عمل مسرحي ضخم، لكل ممثل الياته في اللعب وطريقته الخاصة للتعامل مع الشخصية وتفكيكها واعادة تركيبها ليكون الاداء مقنعا ومتناصا مع الفكرة العامة للعمل، اوّل الشخصيات وابرزها ستكون ليحى ابراهيم، رجل مكتمل الرجولة، جسد طويل وملامح ذكورية واضحة، يتمايل على الركح بفستان نسائي قصير وكعب عال وصوت رقيق، هي الصدمة الاولى للمتلقي، التناقض الرهيب اتقنه يحى ابراهيم منذ بداية العمل للتواصل جولات الممثل بين الشخصيات المختلفة، يحي يرمي عرض الحائط كل التابوهات المتعلقة بالصورة النمطية للرجل، يمعن في اذلال الافكار السائدة ويلعب بحساسية مفرطة، فيقدم شخصية "المخنّث" ذاك المهزوم منذ طفولته بسبب حالات الاغتصاب الكثيرة، رجل في جسده وأنثى في تصرفاته وحركاته وكلماته، هو ابن السلطة وخادمها المطيع من خلال شخصية الشيطان بلباس اسود طويل وقرون طويلة وابتسامة مستفزة تُصنع على الوجه، ضعف الشخصية يكون مطية ليزداد جبروت سلطة المجتمع والسلطة السياسية وحتى سلطة ممارسي الجنس خلسة بين الجدران العالية الصمّاء كاتمة صرخة طفل ضعيف يغتصب.
تبدع في ملامسة الوجع، تراقصه طيلة العرض، نفس الحركات بايقاع متوازن، تدخل الى خفايا الشخصية وتكشف أسرارها الراقصة باعثة السعادة من دفعت الجسد مقابل الخبز، شخصية تبدو متزنة من الخارج ولكنها هشّة من الداخل هي عنوان لكل الحروب والحصار الاقتصادي الذي عاشته العراق، شخصية لها بعدها الكوني ايضا، فكم من انثى ساومت على جسدها فقط لتعيش؟ وكم من انثى في هذا العالم القبيح كان جسدها وسيلتها الاولى لتحيا في كل بلد عرف الحرب والدموية من اقصضى الشرق الى ادنى الغرب؟، فالشرف مع الراقصة لا يوجد بين فخذيها، الشرف في الروح والشرف في عفة القلب وحبّه للحياة، الراقصة شخصية ميكانكية قدمتها الممثلة آلاء نجم واستطاعت الدخول باسلوبها البسيط الى خفايا الوجع الجسدي النسائي، فكل خطورة وحركة على الخشبة كانت وجيعتها تشبه سياط المجتمع الموضوعة على جسد الانثى، سياط الظلم والقهر والعيب والحلال والحرام والشرف والانتهازية والاستغلال، كلها تتقمصها الممثلة وتحولها الى حؤركات راقصة وهي تلبس فستانا بلون احمر، حمرة دماء الانثى وحمرة الشهوة والعنف والثورة، فالشخصية ستنتفض اخر العمل على كلّ جدرانها وتحرر لتصبح كما الصوفيين روح محبة للحب.
تتداخل القصص وتتنافر الحواس امام قصص الشخصيات الصادمة، امعن كاتب النص في مسخ شخصياتها لإبراز وحشية العالم الخارجي ومدى سقوط انسان اليوم في هوّة اللااخلاق واللامعنى، فالجدار ذاك المكان تجتمع فيه شخصيات تتشابه في الوجع وتتشابه في الموت وتنتفي لديها كل المعاني، جميعهم ضحايا للحرب والمجتمع والمنظومة السياسية والاقتصادية، هم ضحايا الوحشية بداخلهم وفي الوقت نفسه هم ابرياء لم يختاروا ان يكونوا حيوانات وإنما كل العوامل المحيطة بهم صنعت منهم ذوات حيوانية فقدت انسانيتها، فيجد المتفرج نفسه امام طفلة تبكي حظها وتنصت لقرينتها "الخنزيرة"، انثى تحبل من شقيقها وتنجب ابنة تقتلها لتتخلص من العار والفضيحة، ابنتها/شقيقتها، هي امتداد لاوديب ربما، امتداد للخطيئة منذ الازل وسببها ادمان المخدرات، ادمنت حدّ تشابه الذكور أمامها، شخصية حركاتها ميكانيكية محسوبة تجمع الكوميديا والتراجيديا في نفس السياق قدمتها لبوة عرب فكانت طفلة في جسد عجوز وأداء تفننت معه الممثلة في تعذيب جمهورها حد قرار الطيران، تختار الموت "شنقا" في رمزية الطيران الى الموت والتطهّر والعلوّ، علوّ لم تجده الشخصية في حياتها فهاهي تبحث عنه في موتها.
ينصت كاتب النص لأوجاع النساء ويحوّلها الى فعل درامي، يلتقط الم المراة ومنه يشكّل تيجانه النصية وشيفراته التي تتقمصها الممثلة لتتعرى من ادران الالم وتتطهر من العار وتدخل بكامل عنفوانها الى فضاءات الامتداد الانساني، في مجتمعاتنا العربية يوجد نسخ عديدة منها، امرأة يدمن زوجها الافلام الاباحية ويكون جسد ضحيته سبيله لتفريغ جميع عقده، يسلبها انسانيتها وحقوقها وتكون فقط وعاء لشهواته، هذه الشخصية النسائية الهشة والمنهزمة قدمتها رضاب احمد، فكانت حليقة الراس مع بقع الدماء الموزعة كامل الجسد للإشارة الى حالات الاغتصاب الكثيرة، رضاب في شخصية جديدة اختلفت عن سابقاتها، شخصية اكثر نضجا وتوزان في التعامل مع النص المنطوق والحركات الجسدية، قرينتها "قطة" هادئة خانعة ولكنّها تقرر الثورة، تبحث عن التغيير وتسترجع انسانيتها وتنتصر لحريتها فالمراة كائن حرّ ولها القدرة على كسر كل الجدران متى شاءت وفي ادائها كانت الممثلة حقيقية وثورتها صادقة على سلطة المجتمع والعقد النفسية المحيطة بالنساء.
صراع السلطة سمّ الانسانية
يتفنون في تعذيب المتلقي ايجابيا، يجبرونه على الانصات والتركيز طيلة ساعتين ونصف من اللعب والتمثيل، نصّ شاعري كتبه مبدع يعرف جيدا قيمة الكلمة وتأثيرها في المجتمعات العربية، نصّ عراقي الانجاز عربي الروح وعالمي الهوى فهو ينصت للوجع النسائي، يحوّله الى شيفرات مسرحية شاعرية، نصّ جندري انتصر للنساء رغم المسخ المقدّم على الخشبة فهو فقط ينذر جمهور اليوم حتّى لا يسقط في نفس الخطيئة وأوحالها، سلطة النص تضع اعتباريتها في مسرحية "الجدار" اولا عبر النص المنطوق الذي سيقدمه الممثلين طيلة العرض وثانيا من خلال الكلمة الافتتاحية التي سيقولها المخرج قبيل انطلاق العمل، كلمة يتملّص فيها حيدر جمعة من شخصياته لانّه بدوره سيسأل "هل كتبت هذه الشخصيات؟" ثم يسال " هل نحن بشر او حيوانات؟ هل نحن احياء ام اموات؟ هل نحن من طين ام من نار؟ ويضيف" هذه الشخصيات قد تنتمي الى زمان وقد لا تنتمي، هذه الشخصيات قد تنتمي الى مكان وقد لا تنتمي، كم عدد المنافي التي تاكلنا، منفى الروح ام منفى الجسد او منفى السلطة ام منفى الشارع، من نحن؟ هل نحن موبقات تمشي على الارض؟".
هذه السلطة الثقافية التي يمارسها كاتب النصّ ستسحب منه سريعا ويفتكها مخرج العمل سنان العزاوي ليتحدث بدوره عن الانظمة الحديثة وكيف صنعت للانسان منافي متعددة، يتحدث عن السلطة السياسية في الغرب وتاثيرها في قرارات العالم الثالث.
صراع السلطتين السياسية والثقافية يكون عنوان بداية العمل الذي سيقدم للجمهور مساحات شاسعة من الصراعات بين السلط العديدة الاخلاقية والنفسية والاجتماعية والاخلاقية، وبمجرد ان يطرح المتلقي سؤال "ترى لمن السلطة؟ للكاتب ام للمخرج" حينها يرتفع صوت اوبرالي من وسط الخشبة مركز اللعب ليشتعل الضوء كليا على الركح ويختفي المخرج والكاتب ويكون الممثل هو صاحب السلطة في مسرحية الجدار.
جدار ناصع البياض، ابواب خمسة قبالة الجمهور، وبابين على الجانبين الايمن والأيسر، مربعات صغيرة تشبه الفجوات وسط ذاك الجدار الابيض، بياض السلام وجماله سيكون مساحة لبوح الشخصيات بحكاياتهم، ذاك الابيض الناصع سيكون الصورة المزيفة لحقائق الشخصيات اثناء لحظات البوح فما البياض إلا عمى البصيرة الذي نعيه حين نرغب بإغلاق اعيننا عن حقائقنا البشعة أحيانا استعمل السينوغراف الدكتور علي محمود السوداني جنونه بالاضاءة لتكون الصورة الاولى بأبعاد غرائبية وملامح ملحمية فتفنن في صناعة المشهدية من خلال التفاصيل الصغيرة المرسومة على الجدار وفي ملابس الممثلين وازياء الشخصيات وكيفية تسليط الضوء على وجه الممثل.
عمل المخرج على الجنون في كل تفاصيل العمل، لكل شخصية قرينتها وما تعجز عنه الشخصية من منطوق او حركة ينجزه القرين فليس للقرين حواجز اخلاقية ولا اجتماعية فسنان العزاوي اختار ان يكون جداره كما سفينة "نوح" لا تحمل من كل جنس اثنين بل تحمل الجنس وقرينه، الروح والجسد، الحب والكره، الرضا والاغتصاب وعلى سفينة الجدار تكشف كل الخفايا والخطايا المخبأة داخل النفس البشرية، القرين نجده في اغلب المشاهد يتسلق ذاك الجدار وكأنه يخبر الجمهور ان داخلك ايها المتلقي شخص آخر داخلك كل المتناقضات اللانسانية ايضا.
وللسلطة اختاروا "المهرج" بملامح القرد، حركات بهلوانية واسود كامل الجسد، سرعة في الحركة على الخشبة وإنصات لكل الشخصيات، ادعاء القرب منهم ثم معاقبتهم، سلاح لسلطة سيكون الموسيقى الاوبرالية في اشارة الى قدرة الغرب على التحكم في شعوبنا عبر الثقافة اوّلا، شخصية السلطة التي جسدتها المبدعة نعمة عبد الحسين كانت موغلة في الظلام، حضور الشخصية مزعج ومخيف، ممثلة امسكت بزمام الشخصية ونحتتها كما تشاء لتاثر في المتلقي فيكرهها لشدة اتقانها للدور، رمز السلطة في "الجدار" مسخ لا نرى ملامحه بل حركاته واغانيه، هذه السلطة التي تحاول ان تكبّل الجميع وتنتصر فقط للذات المتحكّمة في مصائر الناس وتعتمد على "كلابها" ليخيفوا الناس ويصنعوا هالة من الرهبة والقدسية عليها.
"الجدار" عمل مسرحي ملحمي، يضع الشخصيات جميعها والمتفرج ايضا في مكان ما، ربما هو مشفى للامراض النفسية وربما منفى بعيد، تجتمع فيه الشخصيات المسخ، كل يحمل خطيئته ويبحث عن فرصة للبوح حتى يتخلص من حملها، الجدار جدران، هناك ما هو نفسي وسياسي واجتماعي واخلاقي، جدران ثقيلة تحمل النساء وزرها في المجتمعات، وتدفع النساء خطيتها الكبرى، من المسؤول عن كل ذاك التشوّه الاخلاقي والانساني؟ اهو الاب ام الزوج ام الاخ ام الحبيب ام السلطة في معناها الذكوري؟ مع تقدم العمل نكتشف ان جميعهم متورّط في هذا الوجع، وبنصّه ينسف حيدر جمعة الفكرة الاولى للخطيئة حين قيل انّ الشيطان وسوس لحواء فاخرجت ادم من جنّته، وها اننا في الجدار نجد ان ادم وشياطينه وحدهما المسؤولين عن كل العنف والالم المسلط على النساء، فكل انثى خرجت من جنة العفة او الحب او الامومة او الانسانية سببها ادم وذكوره وشياطينه.
تحاول السلطة دائما تهجين الانسان، تقصف احلامه وتضعه في خانة العجز، تبدع السلطة في فنون التمويه، في الجدار تبرز السلطة عبر شخصية "القرد" و"المهرج" ثم "الجوكر" بملامحه الضاحكة وافعاله المريبة، السلطة تتحرك ضدّ كل تحرّك او رغبة في التحرر، في العمل وبعد كل تلك الخطايا سيحضر الفكر الاوديبي، سينهض اوديب العصر الراهن من كرسي السلطة، واذا كان اوديب الاسطورة قد فقأ عينيه ورحل، فاوديب سلطة الراهن اختار ان يفقئ عيون الاخرين/ الشعب ويتركهم في عمى الفوضى ويحافظ هو على سلطته.
"الجدار" مسرحية جريئة نص يختار عينات من المجتمعات، مسخ يلبسهم ارواح ليبوحوا بقصصهم وسينوغرافيا مبهرة اعتمد صاحبها على تقنيات الاضاءة ومشاهد سينمائية ومخرج مجنون حوّل الخشبة الى حلبة لصراع ثنائيات الخير والشر، الانسان والحيوان، عمل مدته ساعتين ونصف يضع المتفرج امام وجعه وحقيقته ويجبره ليتعرّى بدوره من كل خطاياه ويلعن وسواسه الداخلي ليصرخ عاليا لا تدعوا الزهرة البيضاء لليل لا تريقوا دماءنا في اوطاننا، لا تسمموا جمالنا كفى انا انسان.