يتصدر المشهد في منطقة الشرق الأوسط خاصة بعد أن أقدمت طهران على قصف التراب الإسرائيلي يوم 13 أفريل الجاري ورد تل أبيب المحتشم وقرب موقع نووي إيراني الذي لم تتعرض لذكره سلطات طهران.
وبالرغم من التعليقات الإعلامية المساندة للرد الإيرانيأو المستهزئة به فإن العواصم الغربية أخذت الخطوة الإيرانية محمل الجد وتعددت اللقاءات والاستشارات لتحليل العمليات العسكرية الإيرانية في كل جوانبها من حيث كثافة القصف ومواقع الأهداف ونوعية السلاح المستخدم ونجاح الوصول إلى الأهداف والتصدي للهجمات.
حرب غير مسبوقة
لأول مرة في تاريخ المنطقة، تندلع "حرب" بين طهران وتل أبيب، ردا على القصف الإسرائيلي المدمر للقنصلية الإيرانية في دمشق. وأطلقت إيران يوم 13 أفريل صواريخ على مناطق مختلفة من التراب الإسرائيلي من الشمال إلى الجنوب على بعد 1500 كم باستخدام 331قذيفة من مسيرات (درون) وصواريخ بالستية وصواريخ كروز مبرمجة. وتمكن الجيش الإيراني من إصابة بعض المواقع بدون اضرار كبيرة تذكر. لكن كل التقارير الحربية للجانبين، بما في ذلك التقارير الفرنسية والأمريكية، أكدت على دقة الاستهداف وعلى أن سير الصواريخ المستعملة "أصاب الهدف" ولو أن جل القذائف تم اعتراضها وتدميرها بنسبة 95%.
هذه الخطوة التي تم الإعلان عنها 3 أيام قبل وقوعها وإبلاغ طهران الجانب الأمريكي مباشرة بها عبر القنوات الدبلوماسية هي الرسالة الأولى الموجهة للقوى الغربية التي تعطي مضمونا أوليا على القدرات العسكرية الإيرانية بعد أن منحت الكيان الصهيوني وشركائه مهلة تجهيز النفس للدفاع. وهو اجراء استثنائي في حالة الحرب التي تعتمد على مباغتة العدو. وهو ما يشير إلى رسالة مفخخة ثانية تتمثل في اقدام دولة لا تمتلك السلاح النووي على قصف دولة نووية بدون استخدام كل القوات المتاحة لها من القوات الجوية والبحرية وبدون مشاركة القوى المساندة في لبنان واليمن وفلسطين. وذلك يدل، حسب الخبراء العسكريين الغربيين أن إيران أصبحت تمتلك قوة ردع حقيقية في المنطقة أرادت إظهارها للعالم مع التأكيد في رحاب الأمم المتحدة على أنها لن تدخل في عمليات عسكرية أخرى.
استخدام الأراضي العربية لضرب إيران
الدرس الآخر الذي طفا على السطح هو مشاركة المملكة الهاشمية الأردنية في الدفاع عن الأراضي الإسرائيلية ضد "العدوان" الإيراني. وهو تحول عملي غير مسبوق يكرس تواصل "الحلف الإبراهيمي" الذي أرسله الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب الرامي إلى تطبيع الدول العربية مع الكيان الصهيوني والذي انخرطت فيه بعض العواصم العربية قبل هجوم 7 أكتوبر. وإن استخدمت القوات الأمريكية والبريطانية أساطيلها المتواجدة في البحر الأبيض المتوسط وفي البحر الأحمر للتصدي للهجوم الإيراني فإن الولايات المتحدة وفرنسا أعلنتا عن استخدام الأراضي السورية والعراقية، رغم أنف أنظمتها، للتعرض للصواريخالإيرانية انطلاقا من القواعد العسكرية التابعة لها في المنطقة.
هذا الوضع يدل على أن تداعيات تفكيك "الربيع العربي" لا تزال قائمة وأن احتلال مواقع كاملة من التراب السوري ومن التراب العراقييدخل في سياسة منع الشعوب العربية من تحقيق "ثوراتها" على حساب القوى الغربية المتحكمة في مفاصل دول المنطقة وسياساتها.وهو من شأنه أن يعمق الاستقطاب في البدان العربية، على مستوى الشعوب والحكومات، بينالإستراتيجيات المختلفة الرامية إلى "تحرير الأراضي المستعمرة" أو إلى "التطبيع" مع الكيان الصهيوني تحت غطاء غربي.
قدرات إسرائيلية تقليدية محدودة
في يوم 13 أفريل استخدم الكيان الصهيوني 3 نظم دفاعية تدخل في برنامج "القبة الحديدة" التي تمت تجربتها من قبل لاعتراض صواريخ حزب الله وحماس والجهاد الإسلامي. وأظهرت قدرة فائقة على اعتراض صواريخ صغيرة الحجم لا تقارن بالقدرات الإيرانية. لكن تل أبيب لم تكن لوحدها في التصدي للهجوم الإيراني. فقد شاركت الولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا العظمى وفرنسا في الدفاع عن "إسرائيل" وفي اسقاط المسيرات واعتراض الصواريخ. ولوح بعض المحللين الأوروبيين أن الهجوم الإيراني أظهر عدم قدرة تل أبيب على الدفاع بمفردها على وجودها وأن الغطاء العسكري الأمريكي والأوروبي لا يزال ضامنا لوجود الكيان. وهو في حد ذاته واقع فرضه الهجوم الإيراني وسوف يكون له تداعيات على استراتيجيات القوى الغربية في المستقبل.
من ناحية أخرى، أظهرت الأشهر الأخيرة أن تل أبيب تعتمد مباشرة على أسلحةوذخيرة أمريكية الصنع من صواريخ وقذائف للهجوم على غزة وأن نظامها الهجومي والدفاعي له محدوديته بما في ذلك النظم الدفاعية التي تدخل في برنامج "القبة الحديدة" والتي لم تسقط سوى 95% من الصواريخ بالرغم من المعلومات المقدمة من قبل طهران. هذا الوضع أثر على القرار الأمريكي، في مستوى الكونغرس يوم 20 أفريل، بالمصادقة على ميزانية الدفاع الإضافية لدعم أوكرانيا و ..."إسرائيل". وتتمثل المساعدات الجديدة للكيان الصهيوني في ذخيرة وصواريخ إضافية. ويعمل البنتاغون حاليا على تقييم الوضع الناجم على الرد الإيراني خاصة أنه اتضح له أن الصواريخ المستعملة لقصف الأراضي الإسرائيلية هي من الطراز الثاني وأن أسلحة متطورة أخرى لم تستعمل بعد.
القدرات العسكرية الإيرانية
وقد برهنت طهران، خلال الأشهر الأخيرة، على قدراتها العسكرية المتجددة عندما زودت الجيش الروسي بمسيرات فتاكة استخدمها، ولا يزال، في الهجوم على أوكرانيا. وأصبحت إيران بذلك فاعلا أساسيا في الحرب الدائرة في أوروبا وإن ليست طرفا في النزاع. لكن صنع مسيرات قادرة على قصف مواقعة تبعد 1500 و1700 كم على التراب الروسي جعلمنالقدرات الصناعية الإيرانية حليفا عسكريا لموسكو.وفي تطور إقليمي جديد قامت إيران في جانفي 2024 بقصف مواقع في كردستان العراق مستهدفة ما اعتبرته "موقع تجسس تابع للموساد الإسرائيلي" وكذلك في سوريا ضد موقع لداعش وفي باكستان ضد تنظيم "جيش العدل" السني. واستخدمت في كل هذه العمليات بدقة فائقة صواريخ بالستية ومسيرات أجهزت على الأهداف المرسومة في إطار الرد على هجوم في بلوشستان.
وذكرت القناة 12 الإسرائيلية أن الصواريخ والمسيرات الموجهة لإسرائيل يوم 13 أفريل استغرقت رحلتها 9 ساعات للوصول إلى أهدافها. في حين تمتلك طهران صواريخ بالستية جديدة تفوق سرعتها سرعة الصوت يمكنها ضرب أهداف على ضفاف البحر الأبيض المتوسط في أقل من 12 دقيقة. ويمكن لصواريخ كروز الجديدة المصنعة حديثا في إيران الوصول إلى تل أبيب في ساعتين. ويعتبر الخبراء الاسرائيليون أن إيران صنعت نوعين من الصواريخ الأول لا يتعدى 300 كم والثاني يمكنه ضرب مواقع تبعد 2000كم. وهي معدات يمكن استخدامها في استراتيجية إقليمية للتحكم في مواقع متباعدة.
وذكر تقرير 2024 لمعهد الدراسات الحربية أن إيران تمكنت من الاكتفاء الذاتي من حيث صناعات المعدات الحربية من صواريخ بالستية وصواريخ كروز ومسيرات حربية. وحصلت طهران، حسب نفس التقرير، على مساعدات تقنية من كوريا الشمالية وروسيا والصين. وهو ما يفسر العلاقات الإستراتيجية بين هذه البلدان التي تعمل في إطار مقاومة النفوذ الأمريكي أساسا وفرض نظام عالمي جديد متعدد الأقطاب. وذكرت مصادر غربية أن طهران تمتلك ما بين 60 ألف و200 ألف صاروخ جاهز للاستعمال. وأن القدرات الصناعية في تطور مستمر. من ذلك أن أشار البنك الدولي أن إيران خصصت عام 2021 ميزانية دفاعية قدرت بأكثر من 24 مليار دولار (2،3% من الناتج الداخلي الخام) مثلها مثل الكيان الصهيوني. وقد نجحت إيران، حسب نفس المصدر، في صنع نظام دفاعي متطور من رادارات دفاعية قادرة على اعتراض أي صاروخ.
وكشف النظام الإيراني في نوفمبر 2023 عن صاروخ باليستي جديد من طراز "فتح 2" له سرعة تفوق سرعة الصوت 13 مرة ويمكنه ضرب موقع على بعد 1400 كم، أي أن التراب الإسرائيلي يدخل تحت قدراته. وتم الكشف كذلك، شهرا بعد هجوم 7 أكتوبر، عن صواريخ مطورة من طراز"داي 9" ومسيرات "شاهد 147".
في انتظار السلاح النووي
ويعتبر الخبراء العسكريون في لندن أن التوخي الإيراني في عملية 13 أفريل تدخل في فرضية توصل طهران إلى تحقيق "قوة ردع" مع إسرائيل بحكم أنها قادرة على ضرب الكيان الصهيوني في العمق واستهداف منشآته العسكرية والصناعية والنووية، وذلك بدون استخدام القوة النووية. لكن بعض التقارير المسربة أشارت في الآونة الأخيرة أن إيران أصبحت قريبة من صنع القنبلة الذرية. وتعتمد هذه المقاربة على رصد قدرات طهران على تخصيب اليورانيوم في مستويات تمكنها من الدخول في سيرورة صنع أول قنبلة نووية.
وكان على أكبر صالحي المسؤول السابق للمنظمة المدنيةللطاقة النووية الإيرانية في عهد الرئيس حسن روحاني قد صرح مؤخرا في حديث تلفزيوني أن "كل المكونات التي تدخل في صناعة القنبلة جاهزة" لكن "كل قطعة لحاله".
وهو تصريح اعتبرته المخابرات الأمريكية من أهم التصريحات خطورة لما لعلي أكبر صالحي من خبرة ومعرفة بتقدم البرنامج النووي الإيراني.وأصبح المسؤولون الإيرانيون لا يخفون عزمهم على المضي قدما في برنامجهم النووي بعد أن قرر الرئيس الأمريكي دونالد ترامب الخروج من الاتفاق النووي مع طهران. إمكانية أن تحصل طهران على القنبلة في مستقبل قريب يمكن أن يفسر عدم دخولها في حب مفتوحة مع إسرائيل في انتظار أن تتحصل على السلاح النووي الذي يفرض على أرض الواقع قوة ردع تعيد خلط كل الأوراق في الشرق الأوسط.