المعارضة التركية العلمانية تحقق انتصارا ساحقا في الانتخابات البلدية "منعرج" تاريخي في الحياة السياسية التركية

عبّر 61 مليون ناخبا تركيا ، بمشاركة قدرت ب77،25%،

عن نيتهم في احداث تغيير جذري في الانتخابات البلدية التي نظمت يوم 31 مارس الماضي بمنحهم انتصارا باهرا للحزب العلماني وريث كمال أتاتورك، حزب الشعب الجمهوري، الذي سجل انتصارا واسعا في أهم المدن الكبرى محتفظا كذلك ببلديات العاصمة أنقرا وإسطنبول وإزمير ومضيفا لها مدينة بورصا الصناعية رابع بلدية في البلاد والتي يديرها حزب أردوغان منذ 2004 وكذلك أنطاليا وعدد من البلديات في الأناضول معقل أردوغان التاريخي وفي مقدمتهم زنغولداق وأديامان على البحر الأسود وعدد من مدن الجنوب التي دكها الزلزال.

وأصبح بموجب هذه الانتخابات حزب الشعب الجمهوري أول حزب في تركيا بحصوله على أغلبية في الأصوات (37،7%) فاقت المليون أمام حزب العدالة والتنمية (35،5%) الإسلامي الذي يقوده الرئيس رجب طيب أردوغان وكان حزب الشعب الجمهوري قد هزم قبل أقل من سنة في الانتخابات الرئاسية والتشريعية عام 2023. وتمكنت المعارضة الكردية من الفوز في عدد من المدن الكردية وعلى رأسها ديار بكر في حين احتفظ الحزب الإسلامي المحافظ بمدن تنتمي إلى معاقله التاريخية مثل كونيا وقيسري وأرزوروم في الأناضول وريز وطرابزون على البحر الأسود.

أنقرا، إسطنبول، إزمير
أهم المدن التركيا صوتت مجددا لحزب الشعب الجمهوري بعد أن نجح في استرجاعها في انتخابات 2019. ويشكل فوز أكرم إمام أوغلو في إسطنبول أهم حدث إذ نجح في الحصول على أغلبية واضحة (50،8 % مقابل 40،1% لمنافسه) بانتخاب مساعديه في 26 حي على 39 مقابل 14 عام 2019. وتمثل إسطنبول القلب النابض للبلاد. فهي العاصمة التاريخية والثقافية والاقتصادية التي تجمع 30% من الناتج الوطني الخام. أما العاصمة الإدارية أنقرا فصوتت مجددا للعمدة منصور يافاش (59،5%) مرشح حزب الشعب الجمهوري والذي فشل في الانتخابات الرئاسية الأخيرة أمام أردوغان. وتحصل يافاش في أنقرا على 16 حي على 25 بما في ذلك أهم حي من عدد السكان، حي كشيوران، الذي كان يديره الإسلاميون منذ 1994. وتمكن كميل توغاي من الفوز ببلدية إزمير بحصوله على 48% من الأصوات أمام المرشح الإسلامي الذي حصل على 37،1% واحتفظ بمنصب العمدة في أحد أهم المدن التركية.
ثلاثي يشكل انتصارا جديدا للمعارضة التي أظهرت تواجدها في كل مناطق البلاد. وحققت تقدما في معاقل حزب العدالة والتنمية الذي لم تكن له قدرة على استرجاع المدن الكبرى، بل خسر بلديات كان له فيها تواجد تاريخي. واعتبر الملاحظون في إسطنبول أن المعارضة لم تحصل منذ 50 سنة على فوز مماثل. وصرح عمدة إسطنبول للصحافة قائلا:" أعطت إسطنبول الليلة رسالة تاريخية لأعلى هرم في الدولة. قالت إسطنبول: أنا من جانب الديمقراطية، أنا من جانب العدالة." واعتبر أزغور أوزال عمدة إزمير أن "الناخبين اختاروا تغيير وجه تركيا".
هزيمة شخصية لأردوغان
حصيلة الانتخابات البلدية تعتبر أهم هزيمة انتخابية منذ دخل أردوغان سدة الحكم عام 2002. وتكمن هزيمته الشخصية في محاولته استعادة بلدية إسطنبول التي ترأسها عام 1994 والتي كان يقول في شأنها: "من بفوز بإسطنبول يفوز بتركيا". أردوغان خسر الحي الذي صوت فيه وهو من سكان المدينة. وكان في انتخابات 2019 لم يقبل بخسارة "مدينته" و أبطل فوز أكرم إمام أوغلو الذي تمكن من الفوز في الدورة الثانية بالرغم من معارضة أردوغان له. هذه المرة شارك الرئيس التركي بكثافة في الحملة الانتخابية منظما 3 اجتماعات شعبية في اليوم ومحتكرا شاشات التلفزيون التي قل وأن تستضيف منافسيه العلمانيين.
فشل أردوغان في مساعدة منافس حزبه على بلدية إسطنبول هو رمز لتدهور قدرات حزبه وتحول في صفوف سكان المدينة (16 مليون) الذين جددوا لحزب الشعب الجمهوري ثقتهم في شخص أكرم إمام أوغلو الذي أصبح يعتبر المنافس الأول للرئيس التركي. من ناحية أخرى اعتبر بعض المحللين في الصحف التركية أن الناخب التركي أراد إدخال نوع من التوازن بين النظام الحاكم والمعارضة خاصة أنه ليست هنالك انتخابات مبرمجة قبل 2028. ويفسر المراقبون فشل أردوغان بتعاظم نسب التضخم (67%) الذي هزت القدرة الشرائية للمواطنين منذ ثلاث سنوات بدون أن تقوم الحكومة بالتحكم فيه. زد على ذلك ملف الزلزال الأخير الذي هز عددا من المدن والذي بينت الدراسات أن من أسبابه عدم احترام شركات البناء، التي ترعرعت في ظل حزب العدالة والتنمية، شروط البناء السليم. وإلى موعد الانتخابات لا تزال آلاف العائلات بدون مأوى وبدون حلول واضحة لإعادة تمكينهم من منازل جديدة.
في هذه الظروف ظهر أكرم إمام أوغلو كمنافس مباشر لرجب طيب أردوغان خاصة أنه منع من المشاركة في الانتخابات الرئاسية لعام 2019 بعد أن وجهت له تهم بالتعدي على شخص الرئيس. اليوم تفتح نتائج الانتخابات البلدية التاريخية أمامه مسلكا لقيادة المعارضة في الانتخابات الرئاسية والتشريعية القادمة. فوزه في الانتخابات بهذا الشكل يعطي أملا للمعارضين للنظام الإسلامي في تحقيق رجوع محتمل للحكم بقيادة زعيم حزب الشعب الجمهوري خاصة بعد أن صرح الرئيس أردوغان أن "هذه آخر حملة انتخابية" يشارك فيها. وهو ما يعني ضمنيا أنه لن يقدم على انتخابات جديدة في سن 74 والتي تتطلب تغيير الدستور لمنحه الحق في الترشح مجددا. وهو سيناريو يصعب تحقيقه بعد الهزيمة الحالية.
منعرج تاريخي
اعتبار الرئيس التركي أن نتائج الانتخابات هي "منعرجا" في الحياة السياسية التركية فسره بعض الملاحظين أن رجوع الحزب العلماني في هذا المستوى من الشعبية في أنحاء مختلفة من البلاد وحصوله على ثقة الناخبين وتجديدها هذا العام هي إشارة واضحة على تغيير العقليات في تركيا وفقدان المشروع الإسلامي بريقه بعد 25 عاما من الحكم الانفرادي بالرغم من النجاحات الاقتصادية التي تحققت في عهد أردوغان.
وأشارت بعض الدراسات السوسيولوجية إلى أن جيلا جديدا وصل إلى سن الانتخاب وقد عاش في مجتمع متفتح على الحضارات الأخرى تسوده العولمة. وقد تربى على مشروع الانضمام إلى الإتحاد الأوروبي الذي حمله أردوغان منذ أن أصبح رئيسا. وهو في الأساس مشروع قائم على احترام الحقوق الفردية والعامة والنظام الديمقراطي وفي مقدمته احترام صناديق الاقتراع والتي هي الأسس التب بمكن أن تمكن تركيا من الانضمام للمشروع الأوروبي. هذه المبادئ الكونية هي التي يحملها حزب الشعب الجمهوري الذي أسسه كمال أتاتورك. بروز شخصيات شابة في صفوفه مثل أكرم إمام أوغلو (54 سنة) أعطى الحزب اشعاعا بان في الحفلات التي تلت اعلان الانتصار أين أظهرت شاشات التلفزيون شبابا حداثيا وبنات سافرات يحتفلون في شوارع إسطنبول بالفوز في الانتخابات لا علاقة لهم بالمبادئ المحافظة للحزب الإسلامي. نجاح الحزب الكمالي الذي لم يحقق مثله منذ 1977 يدق ناقوس الخطر بالنسبة للمشروع الإسلاموي الذي حمله رجب طيب أردوغان منذ بداية القرن ويفرض، في نفس الوقت، تحديات أمام العلمانيين تتمثل في حسن إدارة الشأن العام والعمل على ضمان توحيد المعارضة من أجل خلق أرضية ديمقراطية تمكن التداول على السلطة عام 2028.

 

 

المشاركة في هذا المقال

Leave a comment

Make sure you enter the (*) required information where indicated. HTML code is not allowed.

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115