ينطلق الجيش الروسي في حملة عسكرية ضد مدينة روبوتيني في حين تنتشر قوات موسكو شرق و جنوب التراب الأوكراني في حملة مضادة من أجل تطويق فيالق الجيش الأوكراني المرابط فيها وذلك لأول مرة بعد الإستيلاء على مدينة بخموت في ماي 2023.
هذه العمليات واسعة النطاق تأتي بعد استرجاع الجيش الروسي عافيته في نطاق عمليات التسليح المكثف التي دخل فيها منذ ستة أشهر بالرغم من العقوبات الغربية المسلطة على موسكو والتي تهدف إلى اضعاف قدراتها المالية والتكنولوجية والصناعية. واعترف الرئيس الأوكراني فولوديمير زلينسكي في حديثه اليومي للشعب أن "الأوضاع صعبة للغاية في حدود التماس أين جندت القوات الروسية أعداد قصوى من الإحتياطيين."
وساهمت، حسب محللين اقتصاديين، صادرات روسيا من الحبوب و النفط والغاز إلى الدول الآسيوية في انعاش الاقتصاد الذي سجل نسبة 2،6% حسب تقديرات صندوق النقد الدولي في حين تتخبط الدول الأوروبية في أزمة اقتصادية صعبة لا تسمح بنمو اقتصادي مماثل. وهو ما ساعد الرئيس الروسي فلاديمير بوتين على تحويل الاستثمار إلى اقتصاد حرب بتسجيل نسبة 6% من الناتج الداخلي العام أي بنسبة ارتفاع تصل إلى 70% مقارنة بالماضي القريب.
إنتاج عسكري حديث وضخم
منذ أن بدأت العقوبات الغربية وخاصة عدم مد روسيا بالمواد المصنعة الحربية والرقائق الإلكترونية التي تستعمل في العتاد الحديث، وجدت موسكو منفذا في تزويد صناعتها الحربية عبر مسالك غير نظامية وواردات من الهند والصين عبر شركات كورية وإيرانية. وحسب تقارير عسكرية غربية، تمكنت موسكو في اقل من ستة أشهر من صنع دبابات وصواريخ ومدرعات جديدة الصنع تضاهي العتاد المستعمل من قبل الجيش الأوكراني. وذكر تقرير لمنظمة الحلف الأطلسي أن بريطانيا العظمى وفرنسا وألمانيا وإيطاليا بمجملها قادرة، في حالة حرب مباشرة مع روسيا، على استعمال 1000 دبابة في حين روسيا لها بين 6 و7 آلاف دبابة. وبالرغم من خسارة 2600 دبابة منذ اندلاع الحرب على أوكرانيا فإن موسكو قادرة بفضل ما تنتجه يوميا من استرجاع قدراتها السابقة في أقل من سنة. وذكر نفس التقرير أن روسيا تصنع 60 دبابة هجومية شهريا أي أنها قادرة على صنع ما يمتلكه الجيش الفرنسي في ثلاثية واحدة.
وعملت روسيا، في إطار تغيير استراتيجيتها العسكرية، بفضل السيولة المالية المتاحة في إطار استعمال عملات غير غربية، على استيراد أسلحة من كوريا الشمالية ومسيرات من إيران. وقررت الاستثمار في مصانع للمسيرات الإيرانية بصورة مكثفة لفرض اغلبية في الفضاء الأوكراني. وتتمتع موسكو، في حربها على أوكرانيا، بمساندة صامتة من قبل الصين والهند مما يفتح بابا للتبادل الاقتصادي مع العملاقين الآسيويين ويدعم الحضور الروسي في الشرق الأوسط وإفريقيا. ويدخل ذلك في إطار فرض دول الجنوب على الدول الغربية عالما متعدد الأقطاب تأخذ فيه الصين والهند وروسيا.
تخوفات غربية
منذ أن نشر المجلس الألماني للسياسة الخارجية تقريرا استشرافيا في نوفمبر 2023 قدر فيه الرد الغربي على التسلح الروسي باحتمال استرجاع زمام المبادرة في غضون 5 إلى 10 سنوات، دخلت العواصم الأوروبية في غليان خشية اتساع رقعة الحرب في أوروبا خاصة مع رفض الكونغرس الأمريكي المصادقة على حزمة جديدة من المساعدات العسكرية لأوكرانيا بحوالي 60 مليار دولار. مما جعل فرنسا وألمانيا تسرع في إعلان مواصلتها لدعم كييف ولو أنها غير قادرة حاليا على مدها بالأسلحة المطلوبة. وحدد التقرير الألماني احتياجات أوروبا بتجنيد 300 ألف مقاتل على الحدود الشرقية في حين لا تفوق أعدادها اليوم 10 آلاف.
وتتخوف الدول الأوروبية من تغيير الموقف الأمريكي في صورة رجع دونالد ترامب إلى البيت الأبيض وأن يفرض نوعا من الصلح مع فلاديمير بوتين على حساب أوروبا. وترجم ذلك في تخوف وزير الدفاع البريطاني غرانت شابس الذي أعلن يوم 15 جانفي الماضي أن "الدبابات على أبوابنا، في مدخل أوكرانيا" مطالبا بعملية تسليح مثل التي قامت بها بلاده قبل الحرب العالمية الثانية. أما الأميرال روب باور رئيس الأركان الهولندي ورئيس الهيئة العسكرية للحلف الأطلسي فقد حذر من أن "السلم ليس مضمونا" وأن "على قوات الحلف أن تجهز نفسها لحرب مع روسيا". من ناحيته اعتبر وزير الدفاع الألماني بوريس بستوريوس أنه "ينبغي أن نأخذ بعين الاعتبار أن فلاديمير بوتين يمكنه مهاجمة دولة تابعة للحلف الأطلسي و لا بد أن نتعلم العيش مع الخطر."
تحضيرات لحرب قادمة؟
وفي حين تصاعدت التحذيرات والتنبيهات من العسكريين الأوروبيين شرعت الحكومات في الإعلان عن ميزانيات عسكرية جديدة. وخصصت ألمانيا 100 مليار يورو للتسلح لم تستثمر منها في 2023 سوى 1،5 مليار يورو. أما فرنسا فقد أعلنت برنامجا يقدر ب 414،13 مليار يورو حتى 2030. لكن نسق الاستثمار الحقيقي لا يتعدى النسب الألمانية. من ناحيتها رفعت بريطانيا ميزانيتها الحربية بمبلغ 5 مليار جنيه إسترليني. وهي أرقام لا تفي بالوعد في صورة حرب مع روسيا بدون اللجوء للغطاء الأمريكي.
الدول الشرقية (بولونيا، استونيا وليتوانيا) والإسكندنافية (السويد والنرويج) هي التي شعرت بحجم الرهان فخصصت مبالغ كبيرة للتسلح. وتأتي بولونيا في طليعة البلدان بتخصيص 4% من داخلها الخام سنة 2023 للتسلح ورفع عدد الجيوش من 115 ألف إلى 300 ألف جندي، وشراء 96 هليكوبتر أمريكي من طراز أباتشي و116 دبابة أدامس وراميات صواريخ هيمارس. ومع انتشار رقعة الحروب إلى الشرق الأوسط والمناوشات في بحر الصين فإن المشهد الدولي المضطرب يفرض على الدول العظمى أن تختار بين الدخول في حروب واسعة مختلفة الجوانب وغير مضمونة أو السعي إلى تخفيف النزاعات والدخول في مفاوضات سلام وتقاسم مناطق النفوذ في العالم مع حماية المصالح الاقتصادية وفتح مجال لبلدان الجنوب التي اختارت الإتحاد مع القوى الصاعدة.