الحصيلة الاقتصادية لسنة 2023 وإمكانية الخروج من الأزمة في سنة 2024

بقلم رضا الشكندالي أستاذ الاقتصاد بالجامعة التونسية

سنة 2023 : سياسة توسعية للدولة لكنها تقشفية

على مستوى توريد المواد الأساسية والمواد الأولية أدت الى تحسن في التوازنات المالية الخارجية لكن بكلفة اقتصادية باهظة.
فقد رفّعت الدولة ميزانيتها في سنة 2023 بمبلغ ضخم (10،7 مليار دينار) لم تشهد له المالية العمومية مثيلا منذ 2011 حتى في أوقات الأزمات الكبرى كأزمة الكوفيد 19 في سنتي 2021 و2022. وفي المقابل تراجعت الواردات ب3،7% في الإحدى عشر الأولى من هذه السنة مقابل تطورها ب 33% خلال نفس الفترة من السنة الماضية خاصة في الموارد الأولية ونصف المصنعة حيث تراجعت ب 7،1% وهو ما أدى الى نتائج اقتصادية هزيلة للغاية بل أن الحصيلة الاقتصادية لهذه السنة تعد الأسوأ مقارنة بالسنوات السابقة بعد الثورة وقبلها.
1. على مستوى النمو الاقتصادي، لم تنجح هذه الحكومة على دفع نسق النمو الاقتصادي والذي انخفض من 4،3% سنة 2021 الى 2،2% سنة 2022 وهو مرشح للانخفاض حتى دون التقديرات الجديدة للميزان الاقتصادي 0,9%. فنسب النمو المنجزة الى حد الآن ضعيفة جدا في كل الثلاثيات وهي تتقلص من ثلاثية الى أخرى وتعتبر الأضعف في الفترة 2021-2023 حيث أن نسبة النمو في الثلاثي الثالث سالبة (-0،2%) بينما كانت في حدود 3،4% سنة 2022 و 2% سنة 2021. كما أن النمو الاقتصادي في الثلاثي الثاني وهو 0،6% كان كذلك أضعف من مستوى السنوات السابقة 2،8% في سنة 2022 و 16% سنة 2021 ونفس الشيء ينطبق على الثلاثي الأول من هذه السنة (1،8%) مقابل 2،5% في سنة 2022 و-1% في سنة 2021 (تحت تأثير الجائحة الصحية).
2. التعلل بالجفاف، والذي تسبب في تراجع المحاصيل الزراعية، كسبب رئيسي لتراجع النمو الاقتصادي سبب غير مقنع بالمرة بما أننا شهدنا في سنوات سابقة تزامن تراجع النمو في قطاع الفلاحة مع نسب نمو معتبرة وهي سنوات 2021 (نمو سالب للفلاحة ب-2،5% ونمو اقتصادي ب4،3%) وسنة 2016 (نمو سالب للفلاحة ب -8،5% ونمو اقتصادي ب 1،1%) وسنة 2010 ( نمو سالب للفلاحة ب -9،1% ونمو اقتصادي ب 3%) بل شهدنا سنوات زاهية على مستوى الفلاحة لكن دون نمو اقتصادي معتبر وهذا حدث مثلا في سنة 2015 (نمو الفلاحة ب 12،3% ونمو اقتصادي ب 1،1%).
3. الأكيد أن خيار التقشف في التوريد والذي شمل القطاعات المنتجة والذي أدى الى تراجع كبير على مستوى توريد المواد الأولية ونصف المصنعة بأكثر من 6% أدى الى انكماش النمو في هذه القطاعات علاوة على التراجع المذهل لقطاع البناء بأكثر من 5% كانا من الأسباب الرئيسية لتراجع النمو الاقتصادي
4. نسبة البطالة تكاد تعود الى مستوى سنة 2021 زمن الجائحة الصحية وهي في حدود 15،8% في الثلاثي الثالث لهذه السنة بعد أن كانت في حدود 15،6% في الثلاثي الثاني من هذه السنة وقد كادت أن تكون أكثر من ذلك بكثير لو لم يتقلص طلب الشغل في السوق الداخلية ونوجه الشباب التونسي نحو الهجرة المنظمة وغير المنظمة.
5. هذه التكلفة الاقتصادية الكبيرة على مستوى النمو والبطالة أفقدت الدولة موارد جبائية مهمة قدرتها وزارة المالية بأكثر من ألف مليار كاملة في ميزانية الدولة التكميلية.
6. التضخم المالي ارتفع من 8،3% سنة 2022 الى حوالي 9،5% سنة 2023 خاصة في المواد الغذائية الأساسية والذي تعدى في بعض المواد عتبة 25%.
7. حجم الدين العمومي ارتفع ب12،4 مليار دينار من 114،8 مليار دينار سنة 2022 الى 127،2 مليار دينار سنة 2023
8. عجز ميزانية الدولة وصل الى مستوى تاريخي ب 12،2 مليار دينار سنة 2023 مقابل عجز لا يتعدى ال 6 مليار دينار في أقصى الحالات في كامل الفترة من 2011 الى 2019 تجاوزناه فقط في فترة الجائحة الصحية أي في سنوات 2020 (11،2 مليار دينار) وسنة 2021 (10 مليار دينار) و2022 (11 مليار دينار).
9. الاقتراض الخارجي تفاقم ب 3،2 مليار دينار أي من 7،4 مليار دينار سنة 2022 الى 10،6 مليار دينار سنة 2023 والهبات الخارجية تضاعفت بأكثر من 4 مرات من 354 مليون دينار مقدرة في قانون المالية الأصلي الى 1537 مليون دينار في كامل سنة 2023 وهو ما يعني أن الحكومة التونسية في سنة 2023 اعتمدت أساسا على الاقتراض الخارجي خلافا للإرادة السياسية لرئيس الجمهورية لخيار الاعتماد على الذات.
10. التقشف في الواردات كان له تداعيات إيجابية على مستوى التوازنات المالية الخارجية وبعض المؤشرات المالية والتي قد تكون مفيدة في تقدم المفاوضات مع صندوق النقد الدولي لو اختارت الحكومة التونسية انتهاج خيار التعامل مع الصندوق، لكن الخطاب الاقتصادي للحكومة الواضح في قانون المالية لسنة 2024 كان متناغما هذه المرة في أغلبه مع الخطاب السياسي لرئيس الدولة وهو خيار عدم التعامل مع الصندوق بالرغم من الفجوة المالية الهامة بمبلغ 10 مليار دينار والتي لا نعلم مصادر تعبئتها.
11. تحسن المؤشرات المالية تمثل أساسا في تحسن هام للميزان التجاري ب6،8 مليار دينار الى حدود نوفمبر من هذه السنة مقارنة ب11 شهرا للسنة الفارطة أي 16،5 مليار دينار في سنة 2023 مقابل 23،3 مليار دينار لنفس الفترة من السنة الماضية. لكن هذا التحسن والذي يعتبر من أول قراءة له جيدا للاقتصاد لكنه يخفي تراجعا ملفتا للنظر على مستوى السيادة الوطنية في هيكلته، فالعجز الطاقي فاق ال 9 مليار دينار والعجز على مستوى مواد التجهيز فاق ال 3 مليار دينار وهو ما يعني أننا لن نقدر على الإنتاج إلا إذا وردنا هذه المواد من الخارج. والعجز الغذائي فقط على مستوى الحبوب فاق هو الآخر 3،5 مليار دينار وهو ما يعني أننا لن نقدر على تأمين غذائنا إلا إذا وردنا هذه المواد والعجز على مستوى الأدوية فاق ال1 مليار دينار وهو ما يعني أننا لن تستطيع أن نأمن صحتنا إلا إذا وردنا هذه الأدوية.
12. تحسن الميزان التجاري كان أساسا مع فرنسا ب5،3 مليار دينار ومع ألمانيا 2،6 مليار دينار ومع إيطاليا 1،3 مليار دينار. والنقطة المضيئة في هذا التحسن أنه أصبح مع ليبيا ب2،1 مليار دينار ومع المغرب ب 300 مليون دينار ومع السنيغال ب 200 مليون دينار وهو ما يبرز أهمية التوجه في المبادلات التجارية الى البلدان المغاربية والى الأسواق الأفريقية. لكن هذا التحسن لا يجب كذلك أن يحجب الحقيقة أن العجز التجاري أصبح مخيفا مع بعض الدول خاصة الصين ب7،8 مليار دينار وروسيا ب6،4 مليار دينار وكذلك الجزائر ب3،9 مليار دينار وتركيا ب3 مليار دينار وتوسع الى بعض البلدان الأخرى والتي كانت لتونس معها في السابق فائضا تجاريا مثل مصر ب 800 مليون دينار والسعودية ب 500 مليون دينار وغيرها من الدول الأخرى.
13. التحسن في المؤشرات المالية شمل كذلك استخلاص الديون حيث تفيد آخر الأرقام أننا تمكننا من خلاص أكثر من 93% من الديون العمومية وشمل كذلك تحسن في عدد أيام التوريد الى 118 يوم توريد بتاريخ 28 ديسمبر 2023 وفي قيمة الدينار مقابل الدولار. لكن هناك تراجع في قيمة الدينار أمام اليورو وهو ما يمثل عامل أساسي لتسرب التضخم المالي المستورد.

سنة 2024 : سنة صعبة على مستوى استخلاص الديون الخارجية تتطلب خطة واضحة لتحصيل مبلغ الفجوة المالية المحدثة في قانون المالية لسنة 2024 وه 10 مليار دينار.
1. سنة 2024 صعبة بامتياز على مستوى تسديد الديون الداخلية والخارجية بمبلغ كبير جدا 24،7 مليار دينار منها 12،3 استخلاص ديون خارجية وهذا يعني أنه يلزمنا على الأقل هذا المبلغ حتى نستخلص ديوننا الخارجية لسنة 2024. لكن في المقابل لم تتوضح الرؤية بعد على مستوى تعبئة مبلغ 16،4 مليار دينار كقروض خارجية مبوبة في ميزانية الدولة منها 14،5 مليار دينار لدعم الميزانية لا نعرف مصدر تعبئتها إلا لمبلغ 4،5 مليار دينار والباقي نجهل تماما مصدرها وهذا أمر خطير جدا ويرمي مستقبل البلاد نحو المجهول
2. علاوة على ذلك قلنا رسميا في قانون المالية لسنة 2024 أننا لن نتعامل مع صندوق النقد الدولي ولا الاتحاد الأوروبي ولا فرنسا ولا ألمانيا ولا إيطاليا ونعرف أن استعداد الدول للإقراض مرتبط بانخراط تونس في برنامج إصلاحات اقتصادية مع الصندوق فكيف سنتحصل على هذه الأموال. من البريكس لا أعتقد ذلك فالبريكس لا يقرض أموالا بالدولار أو باليورو وإلا فإنه سيفشل مهمته الأصلية وهو إضعاف الدولار
3. إذا كنا نريد أن نعول على أنفسنا، فكيف نرفع في مبلغ الاقتراض الخارجي ب6 مليار دينار كاملة من 10،5 مليار دينار سنة 2023 الى 16،4 مليار دينار سنة 2024. فالتعويل على الذات يتطلب برنامج إنقاذ مالي سريع على المدى القصير شبيه ببرنامج الإنقاذ المالي الذي طرحته منذ مدة عبر وسائل الإعلام والذي يعتمد على أربع محاور أساسية : الفسفاط، الشركات المصدرة كليا، تحويلات التونسيين بالخارج والأموال المتداولة تقدا في السوق الموازية.
4. إذ لا بد من مراجعة تامة للسياسات الاقتصادية التي اعتمدتها الحكومات ما بعد الثورة والتي لا تزال متبعة من طرف حكومة السيد أحمد الحشاني. فالسياسة الجبائية التوسعية والتي اعتمدت على الترفيع في نسبة الضغط الجبائي من 20% سنة 2011 الى 25،1% سنة 2024 والسياسة النقدية الحذرة والتي تمثلت في الترفيع المتكرر في نسبة الفائدة المديرية لتصبح 8% بعد أن كانت في بداية سنة 2011 3،5% 1 ولجوء الدولة في عديد المرات الى الاقتراض عبر البنوك التونسية أرهق كاهل المؤسسات التونسية المنتجة وحرمها من السيولة النقدية اللازمة وهو ما أضعف الاستثمار الخاص وأسهم في انكماش النمو الاقتصادي.
5. علاوة على ذلك فإن تقلص حصة الاستثمار العمومي في ميزانية الدولة من 13،8% سنة 2011 الى أقل من 4% سنة 2024 عكس عدم اهتمام الدولة بتحفيز الاستثمار الخاص، كعامل أساسي لخلق الثروة المنتجة وهو ما أسهم في تراجع هذا الأخير الى مستويات دنيا أضرت بالنمو الاقتصادي.
6. آفاق النمو الاقتصادي في تونس في سنة 2024 مرتبطة أشد الارتباط بالوضوح في الرؤية الاقتصادية التي ستتبعها الحكومة خلال السنة القادمة. فهناك سيناريوهات متعددة :
1) سيناريو 1 : العمل بمضمون قانون المالية لسنة 2024 وهذا يعني أنه لن يكون هناك تعامل مع صندوق النقد الدولي . هذا السيناريو يتطلب قدرة عجيبة على إقناع الدول الشقيقة والصديقة على إقراض تونس وتحصيل مبلغ 10 مليار دينار والتي لا نعرف الى الآن مصدرها. هذا السيناريو خطير جدا وقد يدفع البلاد الى ما لا تحمد عقباه إذ من الصعب إقناع الدول العربية والأوروبية إقراض تونس بدون الإقدام على برنامج إصلاحات يؤمنه صندوق النقد الدولي. نجاح هذا السيناريو في الخروج بالبلاد الى بر الأمان يتطلب الاعتماد كليا على الذات عبر برنامج إنقاذ سريع يعتمد أساسا على تعبئة الموارد الخارجية من العملة الصعبة للتمكن من استخلاص 12،4 مليار دينار كديون خارجية. هذا السيناريو يتطلب صياغة برنامج إنقاذ مالي في بداية السنة المقبلة أو قانون مالية تكميلي في بداية شهر مارس يتضمن الملامح الكبرى لهذا البرنامج.
2) سيناريو 2 : العمل بمضمون خطاب رئيس الجمهورية والذي يعتمد أساسا على تطهير الإدارة وإصلاح المؤسسات العمومية عبر ترشيد الحوكمة فيها والقضاء على الاحتكار واقتصاد الريع. هذا السيناريو يتطلب من الحكومة تجسيم هذا الخطاب عبر برنامج اقتصادي واضح المعالم يتناول 3 ملفات أساسية بمقاربة جديدة مختلفة عن مقاربة صندوق النقد الدولي وهي :
 إصلاح الوظيفة العمومية عبر التقليص من عدد الموظفين فيها وخاصة من الذين يمتلكون شهادات مزورة أو من أدمجوا في الوظيفة العمومية عبر الولاءات الحزبية خارج إطار المناظرات
 إصلاح المؤسسات العمومية عوضا عن التفويت فيها وذلك عبر ترشيد التصرف في المال العام فيها والقضاء على الفساد
 تحسين مناخ الأعمال عبر التقليص في عدد الإجراءات الإدارية وطول آجالها حتى تكون الإدارة عاملا أساسيا لدفع الاستثمار عوضا عن لعب دور المعرقل للنمو الاقتصادي كما هو الحال خلال سنوات ما بعد الثورة.
هذا السيناريو يتطلب الكثير من الوقت حتى يؤتي أكله وهو ما لا يمكّن البلاد من الخروج من المأزق الاقتصادي والمالي خلال السنة المقبلة.
3) السيناريو الأسلم للخروج بالبلاد من المأزق المالي هو الدمج بين السيناريو الأول والسيناريو الثاني وذلك ب :
 تطبيق قانون المالية لسنة 2024
 صياغة برنامج إنقاذ مالي يعتمد على أربع محاور لسد الثغرة المالية ب10 مليار دينار والمحدثة في قانون المالية لسنة 2024. هذا البرنامج يعتمد على 1) النهوض بقطاع الفسفاط عبر تأمين انتاجه ونقله الى المجامع الكيميائية من طرف الجيش التونسي. 2) تشجيع التونسيين بالخارج على فتح حسابات بالعملة الصعبة وتمتيعهم بالفوائد المترتبة عن ذلك. 3) التخفيض في الأداء على أرباح المؤسسات المصدرة كليا. و4) عفو جبائي تام على الأموال المتداولة بالعملة الصعبة في الأسواق الموازية.
 صياغة برنامج إصلاحات كبرى للوظيفة العمومية والمؤسسات العمومية ومناخ الأعمال لكن بمقاربة مختلفة عن مضمون الإصلاحات التي وقع التوافق حولها في أكتوبر 2022 مع صندوق النقد الدولي والتي يمكن أن تقنع الصندوق بجدواها على مستوى الوصول الى الأهداف الكبرى التي تفيد البلاد من تحسين معدلات النمو الاقتصادي وتحسين المقدرة الشرائية للمواطن التونسي والتي ستؤدي بالضرورة الى إحلال التوازنات المالية الداخلية والخارجية التي يريدها الصندوق

المشاركة في هذا المقال

Leave a comment

Make sure you enter the (*) required information where indicated. HTML code is not allowed.

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115