بكل ما حملته من أحداث وتحوّلات جيوسياسية واقتصادية . وقد تكون من أكثر المشاهد التي ستظل عالقة بالذاكرة الحرب الدائرة في غزة منذ 84 يوما مخلفة حصيلة مفزعة من الشهداء والجرحى .وستظل انعكاسات وتداعيات هذه الحرب متواصلة في العام الجديد باعتبار تعنّت سلطات الاحتلال الإسرائيلي وفشل المجتمع الدولي في فرض وقف لإطلاق النار لوقف المذابح والمجازر التي ترتكبها إسرائيل ضدّ الفلسطينيين. وبالإضافة للحرب في غزة تستمر الى اليوم الحرب الروسية الأوكرانية التي انطلقت في فيفري 2022 ، دون وجود مساع جدية أو بوادر انفراجة قد تلوح نتائجها في العام 2024 .
وإلى جانب الحروب التي شهدها العالم خلال العام 2023 تواجه المنطقة العربية والعالم تحديات عديدة خلال العام القادم أهمها لملمة جراح الحروب وإعادة الإعمار في بلدان الأزمات مثل سوريا وليبيا والسودان وغيرها من الدول العربية التي لم تفق بعد من وقع صدمة تأثيرات جائحة كوفيد 19 وارتفاع الأسعار ونقص المواد الأساسية وأزمة الطاقة نتيجة الحرب في أوكرانيا ناهيك عن تأثيرات الكوارث الطبيعية .
ولئن تصدّرت الحرب الروسية الأوكرانية المشهد في عام 2022 ، فقد تصدرت الحرب في غزة التي اندلعت نهاية العام 2023 المشهد الدولي إذ خلف العدوان الإسرائيلي 21.110 شهيدا و 55.243 إصابة منذ السابع من أكتوبر الماضي في حرب لاتزال مستمرة دون بوادر انفراجة قريبة.كما أنّ رياح الكوارث الطبيعية والأزمات الاقتصادية لم تتوقف في أكثر من بلد ولعل تركيا وسوريا وليبيا و الغرب كان من بين أكثر الدول التي عانت من الكوارث الطبيعية مما أثر في مستوى الركود الإقتصادي في هذه الدول التي لازالت تعاني على غرار باقي دول العالم من تأثرات جائحة ''كوفيد 19 ''. كما يستعد العالم لوداع هذا العام على وقع تغيرات وتهديدات مناخية تصاعدت انعكاساتها أكثر من أي وقت وعلى أكثر من صعيد، منها زلزال تركيا وسوريا والمغرب وسيول ليبيا وأيضا الفيضانات التي خلفت حصيلة غير مسبوقة من الضحايا ماديا وبشريا واقتصاديا .
أحداث مناخية قاسية
موجة من الأحداث المناخية القاسية طالت مناطق كثيرة في جميع أنحاء العالم، بدءا بالفيضانات مرورا بالزلالزل وصولا إلى حرائق الغابات الواسعة غير المسبوقة .
ففي المغرب أودى الزلزال وفق تقرير نشرته "الشرق الأوسط"، الذي بلغت قوته سبع درجات وضرب منطقة جبال الأطلس الكبير، بحياة ما يقرب من ثلاثة آلاف وأوقع أكثر من 5500 مصاب، وفقا لأحدث الأرقام الرسمية. وأطاح الزلزال، الأقوى من حيث عدد القتلى في المغرب منذ عام 1960، بالبنية التحتية للقرى النائية في المنطقة الجبلية الوعرة، ودمر المنازل وتسبب في انقطاع الكهرباء، تاركاً سكان هذه القرى في معاناة مع اقتراب الأجواء الباردة في الأشهر القليلة القادمة، وتسبب في انهيار جزئي أو كلي لنحو 50 ألف منزل. وكان شهر فيفري 2023 شهد زلزالاً من أسوأ الزلازل ضرب تركيا وسوريا وخلف أكثر من 50 ألف ضحية ودماراً واسعاً وأكثر من 25 مليون متضرر.
أما في ليبيا، فكانت كارثة مماثلة إذ وصلت العاصفة ''دانيال'' بعد ظهر الأحد إلى الساحل الشرقي لليبيا وضربت مدينة بنغازي قبل أن تتجه شرقا نحو مدن في الجبل الأخضر (شمال شرق)، مثل شحات (قورينا) والمرج والبيضاء وسوسة (أبولونيا) ودرنة وهي المدينة الأكثر تضررا. وليل الأحد الاثنين، انهار السدان الرئيسيان على نهر وادي درنة الصغير ما تسبب في انزلاقات طينية ضخمة دمّرت جسورا وجرفت العديد من المباني مع سكانها وفق تقرير نشرته ''الشرق الأوسط''.
وأعلن مسؤولون من السلطات في شرق البلاد تقديرات مختلفة لعدد الضحايا الذين تجاوز عددهم 3800 شخص قضوا في الفيضانات إضافة إلى آلاف المفقودين. ويرجح أن الحصيلة إلى ارتفاع.
وفي سبتمبر شهِدت بلدان شمال أفريقيا هطولات مطرية مبكرة، كان أخطرها في ليبيا، حيث يُخشى وفاة ما يصل إلى عشرين ألف شخص نتيجة الفيضانات والسيول التي خلّفها إعصار «دانيال» في شرق البلاد. وكانت العاصفة المتوسطية العنيفة التي طالت مدناً ساحلية عدّة أدّت إلى انهيار سدود وجرف أحياء بأكملها، لا سيما في مدينة درنة التي أُعلنت منطقةً منكوبةً.
موجات حرّ غير مسبوقة
وشهِدت بلدان الشرق الأوسط خلال صيف 2023 موجات حرّ شديدة وصلت إلى مستويات قياسية في بعض الدول، كما تسببت في اندلاع حرائق غابات واسعة النطاق في لبنان وسوريا والمغرب. وفي الجزائر وتونس، سجّلت درجات الحرارة 48.7 درجة مئوية و49 درجة مئوية على التوالي في 23 يوليو. وخلافاً لما حصل على الضفة الأخرى من المتوسط، ما زالت حرائق الغابات في الجزائر حتى هذا الوقت من السنة أقلَّ حِدةً، وغطّت مساحات أصغر، مقارنة بالسنوات الماضية. وحصل هذا رغم موجات الحرّ التي ضربت المناطق الساحلية، حيث يوجد الغطاء الغابي بكثافة، متجاوزةً في بعض المناطق 49 درجة مئوية، مع رياح جافة بلغت سرعتها 65 كيلومترا في الساعة.
حرب غزة غيرت موازين القوى
ينتهي عام 2023 على وقع الحرب الدامية التي يشنها الكيان الصهيوني على قطاع غزة و العمليات العسكرية المستمرة في أوكرانيا وفي السودان. وشهدت السنة رجوع الولايات المتحدة الأمريكية عسكريا إلى منطقة الشرق الأوسط لمناصرة الكيان الصهيوني وقصف مواقع في العراق وسوريا مجددا بتعلة مقاومة المد الإيراني. في نفس الأوضاع يستمر التفاوض في العالم في قضايا البيئة والعلاقات الإستراتيجية في قمم الدول المصنعة السبعة و "الناطو" ومجموعة العشرين و تنظيم "البريكس" في محاولة لإيجاد توازنات جيديدة على المستوى الدولي. نستعرض في ما يلي أهم المحاور الساخنة على المستوى الدولي خلال عام 2023.
أهم الأحداث الدولية على الإطلاق، والذي سوف يخلف تطورات جسيمة في السنوات القادمة على منطقة الشرق الأوسط، هو الهجوم المفاجئ لحركة حماس يوم 7 أكتوبر في الداخل الإسرائيلي الذي خلف أكثر من 3000 قتيلا و 4 آلاف جريحا من بين العسكريين والمدنيين مع احتجاز أكثر من 240 إسرائيليا. كسر هذا الحدث صورة الجيش الإسرائيلي الذي لن يقهر، بل أعطا مقاتلو حماس برهانا على أن مقاومة الإستعمار بنفس الأدوات التي يستعملها في قمع الفلسطينيين يمكن أن تغير موازين القوى. نتيجة التوغل في 29 مستوطنة والتحكم في مركز قيادة إرز العسكرية برهنت المقاومة على عدم قدرة حكومة نتانياهو وجيشه على حماية المدنيين في الداخل الإسرائيلي.وتخوض حكومة اليمين المتطرف إبادة جماعية في الأراضي المحتلة منذ 7 أكتوبر حيث خلفت الدمار والتشريد وترحيل المدنيين وأكثر من 20 ألف قتيل و 60 ألف جريح 80% من بينهم أطفال ونساء وأكثر من 90 قتيلا بين الصحفيين المستهدفين وهو رقم قياسي تاريخي لم يحقق خلال الحرب العالمية الثانية والحروب التي تلتها. وعرت الحرب الوجه الحقيقي للدول الغربية التي اصطفت وراء الكيان الصهيوني بالرغم من جرائم الحرب والتطهير العرقي في قطاع غزة. وهو ما جعل الحكومات في أوروبا والولايات المتحدة الأمريكية وكندا وأستراليا تواجه موجة من الاحتجاجات الشعبية والمظاهرات ضد الموقف غير الإنساني التي اتخذته. ولا تزال الحرب دائرة إلى أجل غير معروف.
وتزامنت الحرب على غزة مع مواصلة الحملة المضادة الأوكرانية ضد الجيش الروسي من أجل استعادة الأراضي والمدن التي ضمتها روسيا في مقاطعة "الدمباص". وبالرغم من الدعم الغربي العسكري والمالي لكييف فإن الحملة فشلت وقدرت روسيا التي استعادت قدراتها في تصنيع الأسلحة وتوريدها لطائرات درون إيرانية الصنع على التصدي للهجمات الأوكرانية وصدها. ولا يزال ملفا أوكرانيا وغزة يؤثران على التوازنات الدولية المستقبلية مع إمكانية التخلي الأمريكي على كييف بسبب مساندة تل أبيب خاصة أن 2024 هي سنة انتخابية يلعب فيها اللوبي الصهيوني دورا أساسيا في انتخاب ساكن البيت الأبيض.
عودة الانقلابات العسكرية في افريقيا
بعد الانقلابات العسكرية التي سجلت في مالي وغينيا (2021) وبوركينا فاسو (2022)، تواصلت الانقلابات في النيجر يوم 26 جويلية على يد الجنرال عبد الرحمان تياني وفي الغابون يوم 30 أوت على يد الجنرال بريس نغويما. وبذلك ترجع منطقة الساحل الإفريقي تحت السيطرة العسكرية بالرغم من الموقف الرافض لدول تعاون بلدان غرب افريقيا التي نددت بالانقلابات ودعت للرجوع إلى النظام الدستوري. أول ضحايا هذه الانقلابات العسكرية هو النفوذ الفرنسي الذي تبلور في قرار باريس الانسحاب من مالي عام 2022 ثم سحب كل الجنود المرابطين في النيجر هذه السنة مع غلق سفارتها إلى موعد غير محدد. تراجع النفوذ الفرنسي في افريقيا انتقل كذلك إلى المنطقة المغاربية أين تلاقي فرنسا صعوبات في "التفاهم" مع الرباط والجزائر وتونس. بل أصبح من الواضح أن استراتيجية الرئيس إيمانويل ماكرون أظهرت عدم قدرتها على الحفاظ على "الامتيازات" التاريخية لفرنسا في منطقة مستعمراتها القديمة والتي تواجه صعود حركات قومية تنادي بالسيادة الوطنية على سياساتها وموادها الطبيعية.
عام من المظاهرات في فرنسا
سجلت الولاية الثانية للرئيس إيمانويل ماكرون سلسلة من الأزمات تمحورت حوا قوانين "الإصلاحات" المبرمجة من قبل حكومة إليزابيت بورن والمتمثلة في ترفيع سن التقاعد إلى 64 سنة و سن قانون جديد للهجرة استوحى بنوده من أدبيات اليمين المتطرف العنصري والمناهض للأجانب. وعاشت شوارع وساحات فرنسا على وقع مئات الآلاف من المتظاهرين الذين عبروا عن سخطهم للسياسات ماكرون. ومن المفارقات أن رفض قانون التقاعد لاقى مساندة من الرأي العام بنسبة 70% في حين ساند نفس الرأي العام بنفس النسبة تقريبا روح قانون الهجرة. وهو ما أبرز تحولا واضحا في عقلية الفرنسيين الذين يعتنون بما يمسهم مباشرة من سياسات ويميلون في أعداد كبيرة لأطروحات الفكر الشعبوي والعنصري الذي تبث أحزاب اليمين المتطرف، ومنذ عام أو أكثر حزب الجمهوريين الذي تخلى عن المبادئ الديغولية التاريخية التي جعلت منه حزبا جمهوريا حاكما ومؤسسا للجمهورية الخامسة.
واستفاق الشارع الفرنسي،إثر مقتل الشاب نائل حموتي من أصل جزائري على يد شرطي يوم 27 جوان، على موجة غير مسبوقة من "الانتفاضات" العارمة والعنيفة التي عمت جل المدن الفرنسية. وقد ذكرت مشاهد التخريب والنهب والحرق ب"انتفاضة الضواحي" عام 2005. لكن هذه المرة بانتشارها في كل تراب البلاد وبتركيزها على بعدها الجزائري أعطت الانتفاضة صورة مصغرة على ما يمكن أن يعتبر "حربا أهلية" مصغرة. وبعد أن جند الرئيس ماكرن 45 ألف عون من الشرطة والحرس خمد نار الانتفاضة ورجعت الأمور إلى ما كانت عليه. لكن الرد الرسمي جاء في قانون الهجرة الذي استهدف بصراحة العبارة المكتوبة في أحد بنوده "الجزائريين" الذين يحضون منذ سنوات بمعاملة قانونية خاصة. أما بعد 7 أكتوبر، فسارعت الحكومة الفرنسية إلى منع المظاهرات المساندة للفلسطينيين.وكانت فرنسا، التي ساندت بوضوح سياسيا وإعلاميا المجازر الصهيونية بتعلة "حق إسرائيل في الدفاع عن النفس" البلد الوحيد في العالم الذي منع مثل تلك المظاهرات المنددة بالإبادة الجماعية للفلسطينيين.
ملف الهجرة المفتوح
شهدت منطقة البحر الأبيض المتوسط منذ بداية عام 2023 تفاقما لموجات الهجرة غير النظامية انطلاقا من تونس وليبيا. وكان ذلك عاملا مؤثرا على تغيير سياسات إيطاليا بالخصوص وأوروبا واقدام رئيسة الوزراء الإيطالية (التي تنتمي إلى حزب يميني يرفع شعار محاربة الهجرة) جورجيا ميلوني على فتح باب حوار مع تونس من جهة وألبانيا من جهة أخرى. ونجحت بعد زيارات إلى تونس أن تقنع الجانب التونسي ببلورة "انموذج" في التعاون يتمحور حول تسوية موضوع الهجرة استنادا إلى مقايضة بين الدعم المالي الإيطالي والأوروبي والعمل على القضاء على موجات الهجرة من قبل تونس. وطبقت ميلوني هذا المبدأ مع ألبانيا حيث وعدت بتسوية وضعية المقيمين في إيطاليا (وعددهم قرابة 300ألف) مقابل تنظيم عملية الهجرة رسميا بقبول إيطاليا عددا من المهاجرين النظاميين وطرد كل وارد جديد من البانيا على أن تقبل به تيرانا. لكن هذا "الأنموذج" لم يعش طويلا خاصة بعد قمة الهجرة والتنمية التي نظمت في روما بطلب من الرئيس قيش سعيد والتي لم تفض إلى نتائج إجابية خاصة بعد رفض تونس أن تلعب دور "الحارس للحدود " الأوروبية وتوطين المهاجرين الأفارقة على أراضيها. ولا تزال موجات الهجرة مستمرة نحو إيطاليا بالرغم من وعود روما بتخصيص 3 مليارات يورو للاستثمار في تنمية اقتصاد دول تصدير المهاجرين.
علاقات دولية متقلبة
يعتبر عام 2023 مرحلة فارقة في العلاقات الدولية بسبب تحركات "المعسكر الغربي" الذي يبرمج للتصدي لروسا عبر مساندة أوكرانيا عسكريا وللصين عبر التوغل في منطقته الحيوية في آسيا. وتبلور ذلك جليا في مخرجات قمة الحلف الأطلسي في فيلنيوس (لينوانيا)في جويلية 2023 وفي قمة الدول المصنعة السبعة التي نظمت بمدينة هيروشيما اليابانية التي رسمت سياسة "مقاومة" الصين على الصعيد الاقتصادي والتجاري. أما مجموعة العشرين التي اجتمعت في الهند فلم تساند قرارات الدول المصنعة ومنظمة الحلف الأطلسي بل رفضت إدانة روسيا في حربها على أوكرانيا و أبدت شيئا من "التحرر" من مواقف الولايات المتحدة الأمريكية وأوروبا.
من ناحية أخرى عملت الصين القوة العظمى في مجموعة "بريكس" التي تضم الصين وروسيا والهند والبرازيل وجنوب افريقيافي قمتها السنوية في أوت 2023على فتح الباب أمام دول أعضاء جدد في طليعتهم المملكة العربية السعودية وإيران والإمارات العربية المتحدة ومصر والأرجنتين وإثيوبيا اعتباراً من الأول من جانفي2024 وذلك من أجل تعزيز نفوذها في عالم مفتوح تريده متعدد الأقطاب لا يخضع لهيمنة الولايات المتحدة الأمريكية.وتسعى مجموعة "بريكس" إلى شق صفوف الدول الغربية باستقطاب الدول الفاعلة على المستوى الدولي، خاصة منها الدول النفطية والتي تمثل مجموع اقتصاداتها أكثر من 50% من اقتصاد العالم.