كردّ على هزيمة حرب الأيام الستة، لكن بعد 56 عاما من تلك «النكسة» لم تبق من تلك اللاّءات سوى بعض «طلقات شرف» تصدر من هنا وهناك بعد أن تعدّدت الاتفاقيات مع العدو سرّا وعلنا، من كامب دافيد إلى وادي عربة إلى أسلو والأرض مقابل السلام ومشروع «الصلح الإبراهيمي» الذي تشتغل عليه الإدارة الأمريكية ليمحو ما تبقى من تلك اللاّءات.
،وبالرغم من أنّ تخلى الدول العربية عن لاءاتها وجنوحها للتفاوض ولم يحقق لها شيئا من السلام ولا من الحلول الأقل من الوسطى التي تنشدها، هنالك تيار قوي داخل تلك الدول يدافع عن الخيارات الجديدة، حجته في ذلك اختلال موازين القوى مع العدو الصهيوني وأنّ التراجع لمراجعة أشكال المواجهة، فقد حدث ذلك مع أكثر من دولة وأمّة في التاريخ، مثل ألمانيا واليابان اللتين قبلتا باتفاقيات «مذلة» نوع ما بعد هزيمتيهما في الحرب العالمية ليعودا اليوم إلى صدارة الأمم والشعوب المتقدمة ، حتى العملاق الصيني وبعد الحرب الكورية عرف كيف يجاري موازين القوى وفضّل أن لا يخوض حروبا أخرى لتحرير ماكاو وهونغ كنغ وجزيرة تايوان المنفصلة عنه والتي تجعل منها أمريكا اليوم شوكة في خصره ومصدرا لاستفزازه ولم يفقده ذلك صبره ولم يغير خطته في الحرب التجارية الضارية التي يشنها على أمريكا والغرب.
قد يكون في ذلك الخيار الذي اتبعته الدول العربية شيء من المنطق لو أنّه يعكس حقّا انقلابا في الوعي والمفاهيم والرؤى لخوض معركتها بأدوات، لانّ الأمم والدول التي قامت من كبوتها، تخلّصت قبل ذلك من البنى والفكر الذي قادتها إلى الهزيمة، لكن عنما نتأمّل الخارطة العربيّة ونشاهد بلدا مثل السودان تمزقه اليوم مدافع ودبابات جيوشه دون رحمة بعد أن أنهكته الحروب الأهلية والانقلابات العسكرية ومقدراته تضيع منه وشعبه يغرق في الفقر والجهل والمرض، لبنان يعيش حالة إفلاس وأزمة حكومية ورئاسة معلّقة وقد فشل بنخبه ومفكريه وسياسييه في صياغة نظام يؤلف بين أفراد شعبه وبقي يحتكم لنظام طائفي متخلف بما يحمله من مخاطر دائمة على وحدته وعلى السلم الأهلية، وأطلال سوريا ستظل لمدة طويلة تشهد على الجنون ألعربي وعلى القصور الفكري والحضاري في معالجة النزاعات الداخلية، والقنابل والقذائف المدفعية التي انهالت على اليمن «لتحرير بعضه من بعضه» لم تؤد إلاّ لمزيد من الجوع والموت والفرقة بين قبائله، وبالعراق المجاميع السياسية التي تولت أمره بعد الاحتلال، لم تفلح في جمع أوصاله وخطر التفكك يزداد يوما بعد يوم بعض مناطقه تتصرف ككيانات مستقلة بذاتها وتسمح لنفسها بربط علاقات خارجية حتى بأعدائه، ومصر اضطرت لخوض حرب ضروس بأتمّ معنى كلمة حرب ضد غول «داعش» الارهابي لتحرير سيناء منه وكانت تلك الحرب القوس الأخير الذي أغلق من ثورة «فبراير» لتعود مصر إلى الهموم التي كانت تعيشها قبل ذلك، وليبيا التي صارت مرتعا في وقت من الأوقات للمليشيات وللقوات الأجنبية تتعثر اليوم في إعادة الدولة الليبية وكلّ المخاوف أن يصبح الوضع القائم فيها أمرا واقعا وتدفع بعض الأطراف إلى تقنينه.
لا شك في أنّ للخارج يد في ما حدث وما يحدث بالعالم العربي وبالتحديد من أمريكا والغرب من نكبات ونكسات بحكم أنّ الصراع من أجل المصالح هو القاعدة في العلاقة بين الدول، وهذا لا يعفي مجتمعات ودول ذلك العالم من المسؤولية وبدرجة أولى في ما يحصل لها ومن بين أسباب ذلك أنّا لم تتخلّص من عقلية اللاّءات حتى وإن قبلت بعقد اتفاقيات مع الخارج للنفاذ بجلدها أو تحت الإكراه، فإنّها ما زالت متشبثة بتطبيقها بحذافيرها في الدّاخل، فبعد تلك الومضة القصيرة لما سمّي «الربيع العربي» والتي أعطت الانطباع بأنّ المنطقة العربية باتت على أعتاب تغيرات عميقة لتلتحق بالأمم والشعوب الحرة، سرعان ما انطفأت تلك الومضة وعادت تلك الدول والمجتمعات للانكماش على نفسها، إنّ عقلية العناد والرفض المطلق وسياسة الأبواب المغلقة التي كانت قد دفعت المنطقة العربية ثمنها هزائم عسكرية، هي نفسها التي تدفع ثمنها اليوم بعض البلدان اقتتالا وانقساما وإفلاسا ويأسا ذلك لأنّ العقل السياسي العربي ما زال مكبلا بالرؤى الأحادية والإطلاقية.