يتحدث بمرارة و انكسار في فيديو أورده على صفحته عن سدّ أبواب الإذاعات والقنوات في وجهه، حصلت المفاجأة لأنّهم تعودوا على عناد الرجل وصرامته في طرح المواضيع وحدته في النقاش ومشاكساته التي لا يفرق فيها بين وزير او غفير او كبير او صغير، وكنا لا ندرك أن لطاقة احتمال الرجل حد ، والحد هو المساس بمصدر عيشه، لأنّ تلك الحصة التي انطلق بها على امواج "شمس أف م" وكوّن لها جمهورا عريضا من المستمعين الأوفياء " ما يفلت شي" ليست فقط مجرّد حصة إعلامية تعكس رؤاه في كيفية معالجة القضايا التي تطرح على المجتمع بالنقد والإصلاح ، بل هي أيضا عصارة خبرته الإعلامية الطويلة ومن حقه أن يستفيد منها بتحسين وضعه المهني والمادي . أقسى ظلم يمكن أن يسلّط على الإنسان محاربته في عيشه بسبب قناعاته، لأنّه إذا قبل التضحية بقناعاته من أجل عيشه يفقد كرامته وإذا فقد كرامته فقد إنسانيته وبالتالي لا قيمة للعيش بدونها.
لذلك تكلّم محمد بوغلاب بتلك الحرقة لأنّه تشبث بعدم فقدهما ولجأ بحصته إلى إذاعات أخرى، لكنّه وجد الأيادي "اللي ما تفلت حد" تلاحقه وتغلق الباب تلو الباب وراءه، فلم يكن امامه بدّ الا إطلاق صيحة الوجع تلك رغم إدراكه بأنّه من الصعب أن تحرّك ساكنا لأهل الذكر في ظل سيطرة الغوغاء وتلوث المشهد السمعي البصري
الساحة الإعلامية تعيش اليوم أكثر مراحلها تدهورا في مستوى المنابر الحوارية والحصص الإعلامية بانتشار الإسفاف والرداءة وغياب الحد الأدني من الموضوعية والمصداقية وصعود فئة من المختصين في الدعاية والتحريض والمتعطشين لاعتبار كلّ الأساليب لإظهار ولائهم للسلطة القائمة ممّا حوّل المعلومة إلى أداة لمزيد التضليل وبث الفتنة والتعتيم وقصف الخصوم.
ولم تساهم المحنة التي يمرّ بها الشعب الفلسطيني في غزة والتي أمل البعض أن تؤدي إلى هدنة والبحث عن استعادة قدر من الوحدة الداخلية في التفرغ لمزيد التحشيد والتعبئة أكثر في دعم المقاومة وجعل تونس تلعب دورا أكبر للتأثير في الموقف العربي والإسلامي، فقد حصل العكس من عمل على استغلال الموقف لتعميق الشرخ في الداخل التونسي وتفجير الشكوك بين مختلف الأطياف والسعي لفرض رقابة وتفتيش على ضمائر المواطنين وواصل الإعلام الوظيفي بنفس الأسلوب في التعاطي مع القضايا الحارقة بالبلاد باعتماد الإثارة وخلط الحوادث الطارئة بقانون المالية وبقضية السياسيين الموقوفين وبالجدل الدائر في المجلس بين رئيسه " ابراهيم بودربالة" ونوابه حول قانون تجريم التطبيع والاتهامات المتبادلة وموجة الإيقافات الواسعة في صفوف رجال الأعمال والحديث عن علاقتها بالصلح الجزائي الذي انقضي يوم 11 نوفمبر 2023 ، هذا الأسلوب زاد من الضبابية والغموض حول الملّفات وزاد من تشتيت اهتمام الرأي العام بها وعدم قدرته على فهمها .
ليس من الصعب فهم الترذيل الممنهج للخطاب الإعلامي في جميع المجالات " الهدف منه هو ضرب "الكلمة في جوهرها ومعناها، فقد تمّ إغراق الساحة الإعلامية بمنتوج كلامي يشبه إلى حد ما البضائع الرخيصة المعروضة على قارعة الطريق، و كما يقول قانون جراشام " العملة الرديئة تطرد العملة الجيدة من التداول"، فيمكن تصوّر مدى البؤس الذي سيبلغه المشهد اذا تمّ إخراس كلّ من تبقى له جرعة زائدة من الجرأة ومازال يرفض التبدل والتأقلم ومسايرة الموجة السائدة، وذلك ينعكس على واقع الحريات ونوعية الحياة العامّة بالبلاد، فمعركة الخطاب النقدي الموضوعي الذي يقوم على النسبية أكثر من ضروري لمواجهة الخطاب الشعبوي المثير للغرائز والذي يقوم على التحريض ودغدغة العواطف، ومن هنا تأتي أهمّية العمل بكلّ الوسائل القانونية والمدنية لوقف نزيف الانسحابات والسقوط في غياهب الصمت والاستسلام ، لأنّ الكلام أحسن وسيلة للتعبير فيكفي فكرة من هنا وفكرة من هناك ووجود مقالا يتبع مقال وكلمة تجتمع مع كلمة لاستعادة الطريق وظهور منفذ للخروج من هذه العتمة، وهنا تتنزل أهمّية صرخة محمّد بوغلاب وإشارته بالإصبع الى من يقف وراء لعزله وإخماد صوته ، إنّها صرخة ضد اليأس و الاستسلام، صرخة قد تتأخّر بعض الشيء في بلوغ واديغير ذي زرع، لكنّها حين تبلغه ستعيد للكلمة جوهرها ومكانتها.