العالم الغربي بعد تخلي دونالد ترامب عنه: من الحرب الاقتصادية والسباق نحو التسلح إلى تشكيل قوة عسكرية دولية موازية

إثر قرار الرئيس الأمريكي دونالد ترامب وقف المساعدات العسكرية لأوكرانيا

والمشهد غير المسبوق في البيت الأبيض أين تم "توبيخ" الرئيس الأوكراني فولوديميرزيلنسكي، تحركت العواصم الأوروبية وعلى رأسها باريس ولندن لدق طبول الخطر وتجميع القوى لضمان الحد الكافي من القوة الرادعة خشية من غياب "المضلة الأمريكية" الحامية تقليديا للبلدان الأوروبية في إطار السياسة الأطلسية.

وإن أعلن رسميا الرئيس ماكرون "وضع القوة الفرنسية النووية في خدمة أمن بلدان الإتحاد الأوروبي" مع الاحتفاظ بقرار الردع،فإن جل الدول الأوروبية شعرت بالزلزال الأمني الذي تواجهه بسبب تعويلها شبه الكلي على الأسلحة الأمريكية بنسبة تفوق 70% و بحفاظ واشنطن على قرار استعمال أسلحتها من قبل الدول الأوروبية. وهو ما اعتبرته العواصم الفرنسية تعرية أمنية لقدراتها أمام روسيا الفدرالية التي أصبحت، في انقلاب استراتيجي غير مسبوق، تتمتع بدعم واشنطن المفاجئ والذي لم يدخل في أي حساب من قبل دول الإتحاد الأوروبي.
فرنسا في طليعة التحركات
لفهم ما يجري اليوم لا بد من التذكير بإعلان الرئيس إيمانويل ماكرون عام 2017 عن "الموت السريري للحلف الأطلسي" ودعوته تشكيل "قوة عسكرية دفاعية مشتركة" الذي واجه آنذاك انتقادات من قبل العواصم الأوروبية. التخلي الأمريكي الحالي واصطفافه وراءمصالح موسكو على حساب أوكرانيا أدخل البلدان الأوروبية في منطق جديد عماده التسلح وتكوين أكبر حلف عسكري واقتصادي ممكن لضمان أمن البلدان المشاركة في غياب "المضلة الأمريكية". المشهد، غير المسبوق، الذي له دلالات واضحة هو ذلك الذي جمع يوم 11 مارس رؤساء أركان الجيش لأكثر من 30 دولة غربية في قصر الإليزيه بباريس تحت رئاسة إيمانويل ماكرون لدراسة وتخطيط الرد المشترك على التحالف الروسي الأمريكي في إدارة "السلم في أوكرانيا" في غياب ممثلين عن أوروبا وأوكرانيا والحلف الأطلسي.
العنصر الثاني الذي له أهمية قصوى في تغيير الوضع الأمني في أوروبا تمثل في تصريح فريدريش مارتز المستشار الألماني الجديد (قبل توليه مقاليد السلطة) قبوله بالمظلة النووية الفرنسية. وهي خطوة حاسمة استراتيجيا بالنسبة لبلد لديه تاريخ حافل بالحروب مع فرنسا من بينها الحربين العالميتين. تغيير العقيدة الحربية والأمنية الألمانية له وزن في تغيير موازين القوى داخل وخارج الإتحاد الأوروبي وهي يضع على محك العلاقات مع واشنطن مسألة تواجد الجنود الأمريكيين على التراب الألماني منذ 1945 بدون انقطاع والذي يقدر عددهم بحوالي 60 ألف. هذه الخطوة تجعل من الثنائي الفرنسي الألماني نواة حلف عسكري جديد يلتحق بالقوة البريطانية لتشكيل تحالف استراتيجي من نوع جديد.
من ناحية أخرى، ظهر توزيع للأدوار على المستوى السياسي والعسكري، بين باريس ولندن حيث قام الوزير الأول البريطاني كير ستارمير بتنظيم قمة افتراضية شارك فيها 30 مسؤول حكومي ومن بينهم ممثلين عن المفوضية الأوروبية والمجلس الأوروبي ومنظمة الحلف الأطلسي. وتدارس القمة الإمكانيات المتاحة لضمان استمرار الأمن في صورة إقرار وقف لإطلاق النار في أوكرانيا والطرق المتاحة الفورية للمساهمة في ذلك منها المادية والتي تتعلق بإرسال جنود على التراب الأوكراني. أما الجانب الفرنسي فقد جمع المسؤولين العسكريين لمجموعة "أ 5" أي البلدان الأوروبية الخمسة (فرنسا وألمانيا وبريطانيا العظمى وبولونيا وإيطاليا) لتدارس "تجميع القوى العسكرية" والمشاركة في قوة مشتركة لإرسال الجنود إلى أوكرانيا لضمان سلم دائمة بدون الرجوع إلى الحرب.
التوجه نحو اقتصاد حرب
منذ اندلاع الأزمة بين أوروبا والولايات المتحدة رجعت عبارة "الدخول في اقتصاد حرب" بعد أن استعملها بدون جدوى الرئيس الفرنسي ماكرون. وأصبح بالكاشف اليوم أن أوروبا تتحرك على مستوى الإتحاد وعلى مستوى الدول في هذا التوجه. وإن يبقى التسلح من مشمولات البلدان الأعضاء في الإتحاد الأوروبي فإن رئيسة المفوضية الأوروبية أورسولة فن در لاين أعلنت رسميا عن وضع ميزانية بمقدار 800 مليار يورو للمساهمة في تسليح البلدان الأعضاء. من ناحيتها أعلنت ألمانيا عن رفع نفقاتها العسكرية إلى 400 مليار يورو إلى موفى 2030. فرنسا التي تصنع أسلحتها بنفسها رفعت في ميزانية الجيوش إلى 50 مليار يورو وأعلنت رفعا جديدا إلى 68 مليار لهذه السنة على أن تصل الاستثمارات 100 مليار سنويا في 2030. وهو نفس التوجه الذي دخلت فيه باقي الدول الأوروبية لضمان أمنها. وإذا ما استثنينا الولايات المتحدة وروسيا تبقى فرنسا أهم مصنع يمكن اللجوء إليه. لكن التوجه هو في مرحلة قادمة تشكيل صناعة عسكرية أوروبية ضخمة على أساس ما هو موجود الآن من مصانع وتكنولوجيات حربية.
واستدعى الرئيس ماكرون يوم الجمعة 14 مارس، في هذا الإتجاه، المسؤولين الفرنسيين لشركات تصنيع الأسلحة (صفران، داسو للخدمات الجوية، طالس، المجمع البحري و شركة "ك أن دي أس") لتدارس إمكانية رفع نسق الصناعات الحربية الفرنسية وجدولتها لضمان قدرات عالية للتدخل العسكري. ولم يتم الإعلان عن إذا ما تم تداول فكرة تصنيع أسلحة للبلدان الأوروبية الأخرى. ولو أن هذه التحركات تأتي في ظروف طارئة لكنه تنم عن إرادة حقيقية في الدخول في اقتصاد حرب يقضي التفكير في تحويل وجهة بعض المصانع واستغلال مواقع صناعية حربية من أجل توسيع قدرات الصناعات الحربية في فرنسا.
استهداف الصناعات الأمريكية
ولم تتضح بعد مسألة دخول كل البلدان من عدمه في عمليات تنسيق لتحقيق الضمان الأمني المنشود. لكن بعض البوادر، التي لم تناقش في مختلف القمم الدبلوماسية، أشارت في بعض البلدان إلى تنفيذ فوري لإجراءات تهدف إلى فك الارتباط العسكري مع الولايات المتحدة الأمريكية. البلد الوحيد في أوروبا الذي لا يعتمد على السلاح الأمريكي يبقى فرنسا، التي هي القوة النووية الوحيدة في الإتحاد الأوروبي. يأتي بعدها السويد الذي يصنع طائراته من نوع "صاب"واسبانيا التي تحتضن مصانع "أوروفايتر". لكن باقي البلدان تعتمد على أسلحة أمريكية تتدخل واشنطن في استخدامها وبإمكانها تعطيلها إلكترونيا عن بعد.
في هذا الصدد أعلن البرتغال الذي يستعمل طائرات حربية أمريكية منذ 70 سنة عن نيتهإيقاف صفقة شراء 28 طائرة "أف 35" لاستبدال طائرات "أف 16" الأمريكية التي يستعملها والتفكير في استخدام طائرات من صنع أوروبي. كذلك بالنسبة لألمانيا التي أشار مستشارها الجديد إلى نيته التوجه إلى الصناعة الأوروبية وعدم الاعتماد على الولايات المتحددة الأمريكية. نفس الموقف أعلنت عنه الصحف السويسرية عن نية الحكومة الفدرالية التحرر من التبعية الأمريكية. أما كندا فقد أعلن وزيره الأول الجديد مارك كارني أنه أعطى تعليماته لوزير الدفاع لمراجعة العقد الممضي مع شركة "لوكهيد" في شأن شراء 88 طائرة "أف 35" بقيمة 19 مليار دولار أمريكي والتأكد من أنه يخدم مصلحة كندا والبحث عن سبل بديلة. وهو ما يعني إشارة واضحة لواشنطن عن فك الارتباط معها بعد أن هدد دونالد ترامب بضم كندا كولاية رقم 51. كل هذه الخطوات لا تزال في طورها الأول. لكن الوضع الحقيقي هو أن البلدان الأوروبية تستعمل حاليا 150 طائرة "أف 35" وأنها قدمت طلبات في 572 طائرة إضافية. فإن تحققت المقاطعة فذلك سوف يؤثر سلبا على شركة "لوكهيد" ويساعد بفضل الاستثمارات المبرمجة الصناعات الأوروبية.
في العموم، تبقى المشاكل قائمة في الإتحاد الأوروبي بسبب رفض المجر وإيطاليا الدخول بوضوح في عمليات "مقاطعة" للولايات المتحدة الأمريكية. فيكتور أوربان في المجر لا يخفي قربه من فلاديمير بوتين واعتماده على السلاح الأمريكي. وهو اليوم في تناغم مع التقارب الأمريكي الروسي. لكنه لا يريد الخروج من الإتحاد الذي يدعم اقتصاد بلاده. من ناحيتها جيورجيا ميلوني لا ترغب في إرسال جنود إلى أوكرانيا ولا فك الارتباط مع واشنطن التي تتمتع بعدد كبير من القواعد العسكرية في إيطاليا. وهي أيديولوجيا قريبة من توجهات دونالد ترامب. لكن مصلحة إيطاليا الاقتصادية والصناعية بالذات هي مع أوروبا. يبقى أمام القادة الأوروبيين أن يجدوا طريقة للخروج من هذا الانشقاق. ويتضح في المشاورات الدبلوماسية أن الموقف البريطاني ساعد أوروبا على توسيع رقعة "الانتفاضة" ضد أمريكا "الترمبية ". من ذلك أن شاركت بلدان مثل كندا وأستراليا ونيوزيلندا وتركيا واليابان في قمة لندن. وهو مؤشر على الخوض في البحث عن بديل للحلف الأطلسي يساعد على بروز قطب جديد، مستقل عن الولايات المتحدة الأمريكية، يعتمد أساسا على القوة الأوروبية ويساعد على بلورة نظام عالمي جديد متعدد الأقطاب.

 

 

المشاركة في هذا المقال

Leave a comment

Make sure you enter the (*) required information where indicated. HTML code is not allowed.

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115