رواية "زوايا عمياء" للأزهر الزناد: سردية الجريمة بابعاد نفسية واسلوب لغوي مشوّق

هل كل القتلة مجرمين؟ ام هم ضحايا لطفولتهم وماضيهم؟ هل القاتل فقط من يمارس القتل المادي؟ ام القتل الرمزي نتيجته اشد وخامة؟

من هنا ينطلق السؤال وتنسكب اللغة ويتفنن الكاتب في التلاعب بشخصياته ونحت عوالمها النفسية والاجتماعية، فالازهر الزناد كاتب مولع بالتجديد والترميز وفي روايته "زوايا عمياء" يذهب ابعد في مساحات الجريمة والرمزية.

يضع الكاتب في روايته الجديدة شخصياته امام سؤال الهوية، والعدمية "كل شيء عندي مزيف باطل...كياني مثقل بزيف الأصوات.. وزيف الهويات... وزيف اللحظات التي أعيش... مشاعري زيف وأسمائي زيف ..نظراتي زيف .. وكلماتي زيف .. أنا وهم .. أنا سراب" ومن هذا السراب جاء نص روائي ممتع يدفع القارئ لالتهام النص دفعة واحدة، عنوان الرواية "زوايا عمياء" صدرت عن pop libris" صمم غلافها شذى المجيد وجاءت في 416صفحة.

عقدة اوديب قادحة النص

"خذ القلم واكتب... اكتب... بالقلم... وعند كل كلمة تخطها به ينقص منه شيء ... فلا كتابة عندما ينفد المداد من ذلك القلم." هكذا تقول الشخصية في متن الرواية، فكيف يمكن الكتابة عن الكتابة؟ سؤال مرهق فالرواية متعبة للنفس وتتطلب الكثير من التركيز لإعادة قراءتها، وهل يمكن إعادة نص الازهر الزناد باسلوب مختلف؟ يبدو الأمر صعبا ولكن جمالية الرواية تستحق المحاولة، وهنا سنكون كما رامي الاندلسي نهرب إلى الحروف علّنا نفكك شيفرات النص الموجود أمامنا.
"زوايا عمياء" نص ادبي جديد للكاتب والباحث الازهر الزناد، منذ الغلاف يجبر الزناد قارئه ليتسلح بوعيه ومعارفه ليفكك شيفرات النص فلا وجود لشيء مجاني، كل كلمة او لون هي رمز سيكون حلّه في المتن، في الغلاف لونين اثنين، الأحمر القاني لون الدم والجريمة والأسود بما يرمز الى العمى واللاشيء، ونصف آلة موسيقية مزجت اللونين وجزء منها مقضوم وكانه قطّع عنوة، صورة الغلاف سنجد صداها داخل النص، فالرواية مليئة بالدموية، والاحمر سيسيل بين صفحاتها حتى تكاد تشمّ رائحة الموت اثناء القراءة.
تنطلق الرواية بجريمة قتل، تروح ضحيتها "عروس الاداب" الطالبة رانية، يتهم حارس الجامعة بقتلها ويغلق ملف القضية، في البداية تبدو الرواية في صنف ادب الجريمة "لقد قتلت عروس الاداب"، انتشرت عناوين "سفاح الاداب، قاتل الامل" ولكن مع تقدم القراءة نكتشف ان النص اكثر عمقا من الجريمة.
فالرواية تغوص أكثر في الأبعاد النفسية للانسان، يحاول الزناد تشريح الذات البشرية فيضع الإنسان أمام مرآته ويعريه من لباسه الخارجي وأفكاره ومعتقداته المجتمعية ويدفعه إلى زاوية مظلمة من ذاته علّه يعرف نفسه، هكذا ودفعة واحدة يحشر الزناد بطله "رامي الاندلسي" امام نفسه وتراكماته، لنكتشف أن ذاك العاشق عازف الكمنجة الهادئ والجميل هو القاتل المتسلسل والمتفنن أساسا في قطع حلمات ضحاياه من النساء بسبب وجع الطفولة "وتراءى لي في الحلم أنني أقطع الحلمتين من ثدي أمي، وأخفيهما عن الغرباء، أريد أن أحتفظ بهما لنفسي كي لا يشاركني فيهما أحد." (ص113)، فعقدة اوديب ستكون سبيل الكاتب للتلاعب بمشاعر قرائه.
زوايا عمياء نص جريء وتكثيف في السرد، قدرة عظيمة للانتقال من صورة الى أخرى مع تكثيف للمعنى بأسلوب يصل إلى القارئ أيا كان مستواه الثقافي والمعرفي، الزناد يبحث في تاثيرات الطفولة على الانسان، فرامي الاندلسي او شقشوق او"وحيد مشوار" شخص واحد كل منهم يهرب من ماض لم يختره، لم يختر وحيد ان يكون ابن زنا، ولم يختر ان تقدم امه جسدها وسيلة لتوفير حاجياتها اليومية، ولم يختر من يركبون جسد والدته وجسده فيما بعد ولم يكن صاحب القرار في العيش في قرية الايتام ويسند له اتعس لقب لا معنى له "مشوار (لقبك اختارته لك سيدة تعمل في قرية الايتام، كانت تعرفك عندما كنت تبيع المناديل)، هذه الشخصية المعنفة بسبب ليلة خاطئة "أتيت أنا إلى هذا الوجود في غلطة كبيرة... خطأ فظيع أورثني الشقاء والألم... زرع حياتي شوكا يابسا على مدار الفصول... طريقي أسلاك شائكة وصبار صحراوي لا يعطي ظلا ولا ماء"(ص178) لكنّه اختار عن وعي ان يكون قاتلا وينتقم لطفولته.

الترميز والتكثيف سلاح الكاتب

"رامي الاندلسي" الشخصية المحورية، صانعة الاحداث وباعثتها، شاب يدرس في كلية الاداب منوبة، شخصية هادئة تثير اعجاب الفتيات، منعزل عن الناس، يسكنه طنين الاصوات، شخصية معقدة نفسيا تعيش انفصامات متعددة، فهو "ابو الوليد" و"شقشوق العاشق للرجال" و"جزار محترف يقطّع حلمات قتلاه بحرفية"، (تناول بعض القطن وراح ينظف الحلمتين، ويجعلهما للهواء في الغرفة ويتعهدهما من يوم الى اخر، ناجاهما في سره، مرحبا بكما في المجموعة، سوف تنضمان الى بقية السرب)، هذه العقد النفسية تعيش بها الشخصية وتصل الى المتلقي عبر الحوار والتوصيف المكثف الذي يعتمده الكاتب ليكون النص مشحونا بالتشويق حدّ البحث عن حل للجرائم المتكررة في العمل.
يبتكر الازهر الزناد على لسان شخصياته العديد من المشاكل النفسية التي يعيشها الانسان، مشاكل الطفولة تاثر على الكهولة، والمقصود ليس فقط الاشخاص انما البلدان ايضا فمشاكل الماضي حتما ستاثر على الاجيال الحاضرة، ومن قوة الترميز تنتفض الواقعية في رواية "زوايا عمياء".
تتداخل الاحداث والصراعات بين الشخصيات، جميعها ضحايا وكلها مذنبة، في الرواية قاتل حقيقي واحد هو "رامي الاندلسي" الذي قتل اكثر من انثى باسلوب فريد، يغويهنّ ثم يقتلهنّ، لكن بالعودة الى بقية الشخصيات فجميعها قاتلة ومارست تحديدا القتل الرمزي، فالام قاتلة ولدها بعد ان انجبته وتركته لإحدى عشاقها يعبث بجسده الصغير، الجزار قاتل لانّه استغل ضعف الطفل وتحرش به واغتصبه لاكثر من مرة، زوج الام قاتل بسبب اجباره للطفل لممارسة الجنس مع الرجال السكارى قبالة بعض الملاليم "اركب، تذق السلعة وادفع لاحقا، وكنت اخرج ساعة او ساعتين صحبة بعضهم، وصار يأتي اناس غرباء يختلون بي، وانا انشطر في كل مرة فاخرج منّي، العاملة في قرية الاطفال قاتلة لانها اعطته لقب "مشوار" واستخسرت في طفل لقب محترم، المجتمع قاتل لانه يعامل الانسان حسب منظومة قيمية تهتم بالخارج فقط وتطبق ظلمها على الضعفاء، فالقتل الرمزي في الرواية يبدو اكثر قسوة من القتل الحقيقي.
يتفنن الكاتب في تعذيب بطله فيجعله يتيما، وحيدا، لا اصدقاء له، يعرضه للتحرش والاغتصاب زفي الوقت ذاته يواسيه فيجعله محبا للموسيقى ومبدعا في تركيبها ثم يعطيه ملكة التفنن في القتل، لتبدو عوالم الجريمة في الرواية مميزة وكانها لوحة زيتية يقدمها رسام متمكن من الوانه وافكاره.
المكان في الرواية متعدد، الجامعة، الشاطئ والغرفة، الفضاءات المفتوحة للحياة العامة، اما المغلقة فهي للحاجات جد الخاصة تماما كما الانسان، ملامحه الخارجية للتشاركية اما داخله فمغلق باقفال لا تفتح حتّى المرآة تعجز عن كشفها، الزمن ايضا متعدد، فهو الزمن العادي اي التقويم الميلادي الذي نعرفه، 2015وقت الجريمة الاولى، لكن هناك زمن اخر جد مختلف تعرفه فقط الشخصية الرئيسية "اليوم الاخير من العام الاخير في الالفية الاخيرة من عمر الزمان"، فالشخصية تعيش في زمن اخر، وكما انشطرت روحه وبات يسمع اصواتا تسكنه "فالأصوات لا تترك لي مجالا للتفكير و لا لاتّخاذ أيّ قرار وهي لا تخمد إلا لتنفجر" كذلك اخترع زمنا يفهمه وحده وهنا تبرز براعة الكاتب في التلاعب بقارئه في كل نص يبدعه. 

المشاركة في هذا المقال

Leave a comment

Make sure you enter the (*) required information where indicated. HTML code is not allowed.

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115