مهرجان المسرح العربي: مسرحية "سيرك" اخراج جواد الاسدي: العراق المثقف حمّال الحقائق والشاهد الوحيد على التاريخ

يحمل المثقف هموم وطنه ومشاغل الانسان عموما، يعيش المثقف دائما حالات من الصراع مع الذات

وغربة بسبب الخراب المحيط به والمشاكل التي يعيشها بني جنسه وجواد الاسدي مثقف عضوي منخرط في كل اعماله في مشاغل وطنه ووجع انسانيته، لذلك يحمّل شخوصه المسرحية الكثير من الشجن ويسكنها بقوة جبارة للتغيير، جواد الاسدي يحمّل شخوصه المسرحية مسؤولية خراب وطنه العراق ووجع الانسان في المطلق، الاسدي يكتب شخصيات منهكة تحمل على عاتقها مسؤولية الثورة والتمرد، شخصيات موجوعة من دمار المدن وخرابها، يختارها بدقة وفي اغلب اعماله تحضر شخصية المثقف كاتبا كان او فنانا، فالمثقف عين الحقيقة والصادح بها مهما اشتد جبروت الظلم السياسي او الحربي. وهو ما وجده جمهور مسرحية "سيرك".

"سيرك" نص واخراج جواد الاسدي تمثيل شذى سالم وعلاء قحطان واحمد الشرجي وتصميم الاضاءة عباس القاسم ومساعدي اضاءة محمد طاهر وعقيل جبار والصطفى شاكر ومؤثرات موسيقية رياض كاظم وديكور محمد النقاش وتصميم ازياء زياد العذاري ومساعد انتاج محمد خليل، العمل انتاج الفرقة الوطنية للتمثيل ويمثل العراق في مهرجان المسرح العربي بسلطنة عمان.

الممثل وجسده كلاهما صوت المثقف والمدينة
الاسدي في عمله الجديد ثلاث شخصيات محورية ستكون صانعة الحدث المسرحي، جميعها تمثل المثقف حسب اختلاف الاختصاص، كتب الاسدي شخصيات روائي حالم بإتمام الفصل الاخير من رواية مؤجلة منذ زمن، وصاحب سيرك يحلم بالثراء فيرتمي في حضن النظام العسكري ويفشل في الخروج من دائرة الخراب والموت وامرأة، مصممة المشاهد المسرحية واللوحات في السيرك هي النبض الحقيقي للحدث وحمّالة معاناة النساء في "سيرك" الاسدي، ثم يترك لكل ممثل الحرية لينفخ من روحه في شخصيته ويلبسها من حقيقته ويعطيها ابعادها النفسية والثقافية والفكرية وحتّى الجسدية أيضا، فجسد الممثل وقدرته على التماهي مع الشخصية هي الركيزة الاساسية للعمل.
تتقاطع الشخصيات وتختلف في الوقت ذاته، يبدئ العمل من لقاء يجمع الصديقين القديمين "ريمون" صاحب مسرح السيرك ولبيد الروائي الحالم، يجلسان على المصطبة الوحيدة الموجودة في المكان، ويبدأ البوح، ومن خلال حوارهما تكون تقنية "الفلاش باك" او الاسترجاع لأحداث قديمة، لكل شخصية تأثيرها الواضح في مسارات الحكاية ومنها مسار بقية الشخصيات، الشخصية الاولى، "رومينو" صاحب السيرك العاشق لزوجته "الو كاميلا هل تسمعيني؟ انت على الحدود؟ انا لست معنيا لا بالحرب ولا بالموتى، انا يهمني انا وانت فقط" منذ منطوقه الاول يكتشف المتفرج انه امام شخصية لا مبالية بما يحدث حولها، شخص يحلم بالمزيد من الثورة لذلك يستعمل الكلب في اهم فقرات السيرك، شخصية تبدو هادئة الملامح لكنها تحمل داخلها بركانا من الغضب سينفجر في احدى المشاهد، "رومينو" الاناني يعاتب كلبه لأنه نبح بشكل قوي في وجه الضابط "كان على الكلب ان ينبح بصوت منخفض" كما يقول لصاحبه، شخصية "رومينو" تذهب الى اقصى حدود اللامبالاة، فهو يدعو الضابط للعروض طمعا في استمالة السلطة وهو يعرف جيدا انّه من قتل شقيقه امام عينيه، ومتيقن من انه يتتبع زوجته ويحاول اغتصابها.
لا مبالاة "رومينو" نحت تفاصيلها الممثل علاء قحطان، عرف كيف يقدم شخصية مستفزة، تستفز حواس المتلقي وتدفعه لكره انهزاميتها واستسلامها، شخصية "رومينو" اللامبالية سبب من اسباب خراب المدن، وأمثالها كثر في المجتمعات، فالصمت امام القضايا الكبرى ليس حياد بل خيانة وبسبب جبن ولامبالاة رومينو يحرق مسرح السيرك، تتفحم الشخصيات وكانّ بالاسدي يشير باصابع الاتهام الى مثقفي السلطة عبر الازمان لانّهم السبب الاول في تراجع صوت المثقف الحقيقي، فهم ابواق دعاية وبسبب انهزاميتهم تضيع المدن وتتعرض الى الخراب.
الشخصية الثانية تعيش حالتين مختلفتين تعيش بين الخوف والجرأة، شخصية الروائي يحلم باتمام فصل اخير يجلس في نفس المكان، يشعر انه فقد رجولته في احالة رمزية الى العقل وليس الرجولة الفيزيولوجية، الشخصية المنهكة والحالمة في ذات السياق قدمها الممثل احمد الشرجي، شخصية الروائي معطوب اليد في اشارة الى استحالة مواصلة فعل كتابة الرواية زمن الحرب والخراب، شخصية تحمل تناقضاتها النفسية قدمها الممثل بوعي مطلق فهو ممثل واعي يعزف بمهارة نوتة المشاعر المركبة ويعرف كيف يلعب باعصاب المتفرج، الروائي في المسرحية رمز للمثقف المتمسك بحقه في الابداع رغم الدمار.
هنّ الحقيقيات رغم ضبابية الخراب

الشخصية الثالثة هي الاكثر جراة، هي عنوان التوازن والابداع، ممثلة بطاقة رهيبة تلعب بشغف الاطفال، المبدعة وساحرة الخشبة شذى سالم تقدم دور "كاميلا" مصممة اللوحات الراقصة في السيرك، هي صوت الحقيقة الذي لم يستطع الضابط كتمه ولا استمالته، "كاميلا" زوجة "ريمون" وشريكته في المسرح لكنها الاكثر صمودا، تظهر الشخصية في اول المشاهد تلبس اللون الاحمر، حمرة الدم والثورة النسائية الدائمة، تظهر في دور الممثلة تقف على الخشبة تقدم احدى شخصياتها، فشذى سالم الممثلة الصادقة تقدم شخصية ممثلة هي الاخرى تعشق فنها واحلامها، وبين "كاميلا" و"شذى" خيط رفيق فكلتاهما انثى حالمة ومثقفة قادرة على التغيير لم ترهبها الحرب ولا القمع للتراجع، شخصية "كاميلا" الانثى الصادقة، الحالمة بنجاح المسرح واستمراريته، هي مثل الوطن او المدينة بدورها تعيش لحظات خوف وفرحة وبينهما تنقلب ملامح الوجه ورعشة الصوت وحركة الجسد فنراها شامخة حينا وكأنها فراشة تحلق للحرية وأحيانا منهكة الخطوة ثقيلة الحركة تماما كايّ مدينة تعيش حربا وخرابا.
شذى سالم ابدعت في التقاط وجع "كاميلا" وإيصالها الى الجمهور، نجحت في استنطاق الشخصية وتقمّص حلمها وثوبها، هي ستكون صوت نساء الوطن "اعتقلني رجال الضابط واخذوني الى سجن، به نساء محكومات بالوجع، نساء شاحبات لكثرة ما مرّ عليهنّ من دمار، فتاة يتداولون على اغتصابها" هذا الصوت النسائي والوجع الانثوي كتب عنه الكثير من الروائيين العراقيين وعلى سبيل المثال ما حبّره محسن الرملي في روايته "حدائق الرئيس" و"ابنة دجلة" حيث نقل الانتهاكات اللامتوقعة التي تتعرض لها المراة في المنظومات العسكرية، فالمراة، الممثلة، كاميلا ساحرة المسرح وباعثة الحياة يراها الضابط فقط جسد او وعاء للشهوة، وهذا التناقض لعبت عليه الممثلة شذى سالم لتقدم شخصية نسائية مسكونة بالثورة رغم قتامة المحيط.

الترميز لغة الاسدي النقدية

فضاء اللعب يسيطر عليه الدمار، اضاءة خافتة تجبر المتلقي لمزيد التركيز حتى فهم مناخات اللعب، الواح خشبية باللون الاسود مرمية على جانبي الركح في اشارة واضحة الى الخراب، اللون الرمادي هو سيد المكان، رمادي التوهان والحيرة والخوف ودمار المدن ماديا ودمار الانسان نفسيا، طاولة وحيدة تتوسط المكان تتغير حسب المشهد، اختار الاسدي في "سيركه" اقل الديكورات وكانه يحيل الى الدمار والخراب المنتشر في المدن والأماكن داخل عراقه وخارجه، ترك الاسدي مكان الاحداث مفتوحا هو "سيرك" غير معرّف، مسرح في مكان ما يتعرض الى حريق ودمار في اشارة الى انتهك المنظومات الى المسارح والثقافة لأنهم يخافونها فهي دوما تمثّل رمزا لصحوة الفكر من سباته.
"سيرك" هو اسم العمل، فضاء غير معرّف ليترك المخرج لجمهوره حرية تخيل المكان وإسقاطه على كل المدن الخربة، اعتمد الاسدي كثيرا على الترميز في عمله الجديد لينقد حال الثقافة اذ "اطفات المسارح مصابيحها والممثلين تفحموا وصاروا اشباحا، انظر الى حدبة هاملت مرمية هناك والزجاج يحترق على الطريق" فحين تحترق المسارح يعني احتراق الفكرة، موت تدريجي للحرية وسقوط للوعي وانتصار الوهم والموت، فالمسرح الذي كان يشع بالجمهور "تحول الى مكب للنفايات وحضيرة للحيوانات" فقتل المثقف هنا هو السبيل الافضل للأنظمة للسيطرة على عقل الانسانية.
تعالج المسرحية مواضيع تهمّ المثقف والانسان عموما، تطرح الشخصيات المسرحية مشاغل الناس خارج الخشبة، من المواضيع المطروحة "الهجرة" فكاميلا تطلب من الروائي "هاجر لتكمل روايتكن الهجرة ارحم من العيش مع الخوف" فيجيب "الموت هنا اكثر متعة ورومنسية" فاذا فكر الكاتب والشاهد على التاريخ ترك مدينته، فمن سيكتب تاريخها ومن سيكون الشاهد على المجازر وإحياء الحقائق المطموسة "يا الله لماذا وكيف يذهب شعبي كله للذبح، تحت وطأة الصمت من سيؤرخ للجحيم المسكوت عنه؟ عار الفرجة على المجازر؟" هكذا ودفعة واحدة تصرخ الانثى رمز الحياة مناجية ربّها.
في "سيرك" تحضر الشخصية الحاضرة الغائبة العديد من الأحداث الضابط بملابسه العسكرية كما يشار اليه يحضر فعلا ويغيب جسدا، فالضابط يوجد داخل كل شخصية، الضابط يسكن عقلهم الباطن وان غاب جسده فحضوره الرمزي مخيف فحتى المثقف اصبح يصنصر ذاته قبل ان تصنصره السلطة باحكامها ليكون العمل تجربة رمزية اخرى ينقد عبرها الاسدي المدن الخربة والافكار المشوّهة، فمسرحه مسرح الانسان وعلى الخشبة يستنطق الاسدي تاريخه وحاضره ويسائل مدنه عنّ احلام سرقت بفعل الحروب واخرى ستزهر.

 

 

المشاركة في هذا المقال

Leave a comment

Make sure you enter the (*) required information where indicated. HTML code is not allowed.

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115