وفي كل الذي ينعى فيه الجميع وفاته تبقى لوحاته خالدة ومتوهجة الألوان والحياة لتذكر بمسيرة وسيرة رسام منفرد ومتفرد نحتت له موهبته مكانة في مصاف الرموز وكتبت له ريشته اسما بأحرف من نور في سجل الفن التشكيلي. فاز بعدة جوائز مرموقة، منها الجائزة الوطنية للفنون التشكيلية في عام 2005 والجائزة الأولى في بينالي الكويت في عام 1998... كما حصد المحبة الصادقة من الرفاق والعشاق لبوح خطوطه وألوانه...
عن عمر ناهر 73 سنة، ودّع لمين ساسي لوحاته وريشته... وغادر الحياة صباح أمس الخميس 24 أكتوبر 2024، لتفقد تونس برحيله أحد أبرز رواد الفن التشكيلي المعاصر.
لوحات من "الأشخاص الأشباح"
يبدو أنّ قصور منوبة وحدائقها الورافة الظلال، قد كان لها أثر في نسج مخيال ابنها لمين ساسي الذي ولد بها في سنة 1951. كبر لمين ساسي ونمى فيه عشق الرسم وملاعبة الفرشاة ومراقصة الألوان، فالتحق بمدرسة الفنون الجميلة بتونس حيث تخرّج عام 1978، اختصاص رسم زيتي. منذ خطواته الأولى في عالم الرسم، تميّز لمين ساسي بالاختلاف وبالابتكار... فكانت له لغته الفنية الخاصة وبصمته المميزة التي تجعل لوحاته عصية عن التقليد !
يسبح لمين ساسي في بحور التيار التجريدي لكنه يرتكز بقدميه على التراث المحلي لتحمل أعماله مهما كانت كونية روحا تونسية خالصة.
ومن بين ما كتب عن تجربته وموهبته وخصوصيته في الرسم، ما يلي :"أظهرت تجربة لمين ساسي تحوّلا نحو تشخيص حرّ بعد أن كان الفنّان تجريديّا. فمنذ أن استولت الأشخاص الأشباح على فضاء لوحته ولمين ساسي يحاول التنويع تقنيا وتركيبيا على مشهد لا زمان ولا مكان له، تنعتق فيه الأشخاص من جاذبية الواقع وتتحرك من ثقل تفاصيلها، إلى أن نمت في تجربته بوادر تجاوز وتنويع تقني ومادي بالأساس قدّم بها رؤى حالمة وتصوّرا جماليّا عميقا. فالثّراء الذي تحتويه تشخيصه الأمين ساسي ناتج عن تطلّع الرسام إلى عدم التقيّد وإلى محاولة الإخراج باستعمال أوضاع وهيئات الأشخاص وكذلك بتوجيه الإبصار لعبة بين الكائن والكائن".
النساء: أسرار وألوان في رسوماته
تحضر المرأة بقوة في لوحات لمين ساسي، فتلوّح تارة بيد من فرح وتخفي تارة أخرى ابتسامة مرّة... تتكرر صور النساء وتتعدد أحوالهن وأوصافهن فكأننا برسومات المرأة عند لمين ساسي رجع صدى لأعماق النفس البشرية في صخبها وهدوئها، شكّها ويقينها، حزنها وفرحها... في محاولة تفكيك تركيبة هذه العلاقة بين الفنان ونساء لوحاته، كتب الباحث والناقد محمد المي خاصة بعد أن تردد لمرات متعددة على مرسم لمين ساسي، فقال من بين ما قال:"تن ظر إلى شخوص لمين ساسي فلا تكاد ترى غير الشخوص الأنثوية في أغلب رسومه حتى تتساءل فيما بينك وبين نفسك : ما مشكلته مع الأنثى؟ نوال السعداوي تقول : الأنثى هي الأصل. وفي حياة لمين نساء متعددات : امال وياسمين وسندة وتفاصيل عن شقيقته الكبرى الراوية والمحدثة التي تحمله على ظهرها عندما كان صغيرا ولا ينام إلا بعد الإنصات إلى خرافاتها. لمين حيي أمام المرآة ولبق وكيّس، والمرأة التي غالبا ما تحضر في رسومه هي امرأة موزعة بين الحياء والحزن. .نظرتها باهتة، حائرة، مستغربة، مستنكرة، تقول وتوحي وتحدد وتفتح شهية التساؤل والبحث عن المعنى. لا معنى خارج اللوحة. .عليك بالنظر ثم إعادة النظر. ..الاقتراب ثم الابتعاد عن اللوحة. .. أعمال الخيال والتصور حتى تدرك مدخلا من المداخل لقراءة ما يريد الفنان قوله. إنّ الإبداع عند لمين ساسي شكل من أشكال الإقامة في العالم يؤكد رؤية الفنان للموجودات والمحسوسات. ..هو عملا بقول جون كوهين في كتابه : بنية اللغة الشعرية :ليست وظيفة الفنان رسم الشيء بل رسم ما يحدثه الشيء في النفس."
كما تفيض لوحات ساسي بالحياة وبالألوان الزاهية وبالرقة اللامتناهية...فإنها تحمل رسائل اجتماعية وسياسية والتزاما عميقا بالحرية والإنسانية.