مسرحية "وصايا الديك" اخراج وليد الدغسني جميعنا مهزومين فمتى تستفيق المدينة من صمتها الليلي الرهيب

المسرح التزام بقضايا الوطن ودفاع دائم عن المواطنة والحقوق والحريات،

المسرح بوابة للنقد ودعوة دائمة ومتواصلة للاصلاح والتغيير، المسرح سلاح للراغبين في بناء وطن يحترم مواطنيه ويدافع عنهم، فالمسرح فعل سياسي بامتياز وممارسة المسرح هي ممارسة للحرية في ابهى تجلياتها.

المسرح عند وليد الدغسني، نداء ازلي للتغيير والحريات هو اشد الفنون التصاقا بالواقع وبالمسائل التاريخية ومن المهم ان يكون المسرح فعليا نقديا ومساهم في التوعية بالقضايا الهامة في الوطن حسب تعبيره ومن هذا المنطلق ولدت مسرحية "وصايا الديك" نص منير العماري واخراج وليد الدغسني واداء منير العماري واسامة كشكار وملابس عبد السلام الجمل سينوغرافيا صبري العتروس وصوت اضاءة محمد هادي بلخير.

من تريسياس الى اليوم: كل اللعنات مزيفة

يعمل وليد الدغسني على طرح جماليات فكرية ودلالية في مسرحه، ينطلق من الفلسفة لصياغة مقومات فنية مختلفة تشبه أفكاره وجمالياته الخاصة جدا، فالجمال لا يستقل عن الإحساس الانساني، لان الاحساس يكون دائما مصحوب بالإدراك العقلي ومرافق للأحكام النقدية والتفضيل الجمالي، لكون الاشياء المادية تكون ذات قيم فنية وجمالية عندما نفضلها عن غيرها ونشعر بلذتها جماليا" كما يقول الفيلسوف جورج سانتيانا ومن هذا الاحساس الانساني الموجع بالوطن ومشاغل ابنائه وهواجس مبدعيه ولدت "وصايا الديك".
"وصايا الديك" هو عنوان المسرحية، منذ العتبة يجبر المخرج جمهوره لاستعمال العقل وتفكيك رمزيات العمل، العنوان متكون من مترادفتين، الاولى هي "الوصايا" في الجمع بما تعنيه من قيم واخلاقيات واقوال يجب تطبيقها دون مماطلة، في القانون وكل الاديان تعتبر الوصية قولا مقدسا، اما الجزء الثاني من العنوان فهو "الديك" ذاك الحيوان المرتبط اساسا بشروق الشمس، وللديك اكثر من رمزية، فهو "الكتريون" صديق الاله مارس في الميثيولوجيا اليونانية، وعشيق افروديت مسخ الى "ديك" لانه نسي الصياح لتنبيه مارس، هو رمز للعناد في معتقدات شعوب بلاد الغال وهو عنوان للتسلط والذكورة في مجتمعاتنا العربية والمحلية "التسرديك".
لتكون "وصايا الديك" هنا شيفرة تحمل المتفرج الى العديد من الثنايا لمحاولة فهمها واعادة قراءتها، واخر العمل سنكتشف انها وصايا مبحوحة ومذبوحة تماما كاخر صيحة يطلقها الديك قبل ذبحه، صيحة مشوّه ومقلقة، هذه الصيحات تلبّسها الثنائي منير العماري واسامة كشكار واستطاعوا تحويلها الى فعل تمثيلي وطاقة مسرحية موجعة ومربكة ومضحكة في الوقت ذاته.
من الترميز ينطلق العمل للوصول الى الحقيقة (غير الواحدة)، في المسرحية اشارات مختلفة الى سلطة الحاكم ورغبة السياسي في التفرد بالحكم حدّ تشويه كل الخصوم والزج بهم في السجون، اشارات الى وضعية الفنان بسبب منظومة الدعم وغياب قانون يحمي الفنان، اشارة الى جوع المواطن وصعوبة الحياة بسبب انعدام الماء والضوء والحرية، ونقد لانتشار ظاهرة التفاهة فالقائد الحاكم بأمره في العمل مولع بالافلام ويقضي اوقاته امام اجهزة افتراضية متناسيا واقعه تماما كحال العديد من جيل اليوم يغوص في "الانستغرام" و"التيكتوت" حد نسيان واقعه وحياته، لتصبح التفاهة بمستوياتها اقرب الى الحقيقة، فالعمل مشحون بالنقد والترميز منه يدخل الدغسني الى بوابات الحرية ويجبر الجمهور ليكون جزء من اللعبة الحكاية.
"وصايا الديك" عمل مسرحي ونقدي انطلق من حكاية "اللعنة" التي ستصيب شعبا باكمله فالسماء لا تمطر، الأرض تتوقف عن إنبات الزرع والناس يموتون غرقا وجوعا والطاعون ينتشر بسرعة لانّ الحكيم "تيريسياس" يخبرهم ان جريمة "اوديب" الملك هي سبب هذه اللعنة ولن تزول إلا باعتراف اوديب بجريمته (قتل والده)، ولكن ما الذي سيحدث لو رفض اوديب فكرة اللعنة وتمرّد على الكهنة واصدقائه ولم يعترف بجريمة ربما لم يرتكبها؟ من هذا السؤال سيولد العمل وسيكون "الملك" متمردا "انا لست اوديب، لن افقئ عيني ولن اعترف بجرم لم ارتكبه" كما يقول الملك المتخيل في مسرحية "وصايا الديك".
في المسرحية يتماهى الفكري مع الروحي، يبدع الممثلين في التقاط شيفرات النص والفكرة، يلعبون بتلقائية وقدسية، لكل منهم طريقه في استقراء الشخصية ولباسها وثم تقديمها للمتفرج، عمل يمزج الفلسفة بالفن وتنصهر فيه روح الممثل مع نص جريء وقراءة موجعة للواقع واسقاط فني على ما تعيشه تونس في السنوات الاخيرة.

السينوغرافيا سلاح لتفكيك الواقع وتحويله الى فعل مسرحي

المكان مجهول لا وجود لديكور يكشف ملامح الفضاء، الشخصيات ايضا مجهولة فهما اثنين على الركح وثالث يحضر فقط بالاسم، هما حاكم ومحكوم، سيد وعبد، حاكم ومستشاره، بشريين وجدا في مكان مجهول دون هوية يحاول احدهم ان يخطب ويحكم في الاموات، لعنة تصيب المكان لانّ الحاكم قتل ولم يعترف بجريمته.
اضاءة صفراء خافتة تشعر المتلقي بالتوّتر وتجبره ليكون جزءا من العملية الابداعية، بعض صناديق بأحجام مختلفة تنتشر في فضاء اللعب، اقصى الركح صندوق اكبر حجما سيكون له اكثر من وظيفة اثناء المسرحية (فضاء لتغيير الشخصيات)، وفي مقدمة الركح كرسيّ يشبه كرسي العرش، هما اثنين دون اسماء واضحة، الإضاءة الخافتة المسلطة على ملامح الممثل كانها محاولة لاستقراء بواطنهم واستكشاف اسرارهم الدفينة، مختلفين من حيث الشكل الجسدي وطريقة النطق والتفكير ويجمع بينهما فقط المكان.
الاضاءة بتدرجاتها ستكون محملا جماليا ودلاليا لمعرفة خاصيات الشخصيات نفسيا وجسديا، بعض مكونات الديكور مع حركة الممثل والاضاءة والموسيقى والفيديو مابينغ ستشكّل عناصر بصرية لرجّ المتلقي، في المسرحية يوظف المخرج اكثر من فنّ ليصل الى رسالته النقدية.
فالمسرح ينفرد عن باقي الفنون الاخرى في امكانية توظيفه للمختلف التخصصات وخاماتها، وبطرق مختلفة لكل تلبي كل احتياجاته، كما ان المواد التي يستخدمها أيضا في انتاج اشكال منظومته البصرية قد اختلفت منذ بدايات تأسيسه، فالمسرح تركيب تدخل في اطاره فروع مختلفة، وهذا ما يشكل قوته التي لا يمكن ابدالها" كما كتب السينوغراف علي السوداني في كتابه "جماليات المنظر الرقمي" وامام منظومات بصرية ودلالات سيميائية يضع الدغسني جمهوره عاريا امام مرآة النقد ويجبره لينصت لصرخات الحقيقة علّه ينقذ نفسه من "لعنة" الخنوع والهروب.
تشكل عناصر السينوغرافيا والأداء المحكم للمثلين والقدرة على الانتقال من شخصية الى اخرى مقومات الجمال في مسرحية "وصايا الديك" وأولى الدلالات لقراءة العمل وفهم رمزياته، فالمسرحية تشبه المتفرج فيها سيجد ذاته التائهة واحلامه المؤجلة، جميعنا ظالم وكلنا ضحية، على الركح ثنائي متمكن من الياته التمثيلية والدرامية استطاعا ان يربكا المتلقي حتى ينصت جيدا الى صياح الديك المشوّه وينقذ روحه من سباتها وصمتها بعد ان تعوّدت على الجريمة والرثاء، فالعمل مساحة صادقة للتطهّر واستعادة صيحة الحياة.

 

المشاركة في هذا المقال

Leave a comment

Make sure you enter the (*) required information where indicated. HTML code is not allowed.

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115