يقاومون كل لحظة ليبقوا على قيد الحياة، هم الاقل حظا والاكثر نسيانا، يعيشون بيننا يشاركوننا نفس المساحة من هذا الوطن، يحملون الهوية الوطنية لكنهم الاقل تقديرا في المنظومة الاجتماعية والسياسية والمنظومة التربوية وكل السلط الرسمية فيكفي ان تكون منحة "180دينار" هي هاجسهم لنرى وجع الانسان وتفتت شعورهم بانعدام انسانيته امام المنظومة، هم ذوي الهمم الذين ولدوا مختلفين عنا جسدا لكن تسكنهم طاقة عجيبة للحياة يقامون قسوتها ووجعها وامام الجمهور بعثت فيهم روح سيزيف ليبدعوا في عمل مسرحي ينقل اوجاعهم وافكارهم بطريقة كوميدية حدّ التراجيديا في مسرحية "احكيلي".
هم 16ممثلة وممثل على الركح تحدوا كل الشكوك في قدرتهم على الاداء وتغلّبوا على مخاوفهم وترددهم الذاتي ليصعدوا امام الجمهور في مسرحية تدافع عن حقهم في الادماج والثقافة، وهم ابتهال حوتة وخولة محضاوي ومنال برقي ومنية ناجي وفاطمة دباكي ونورهان حامدي وفاطمة ونيسي وايمان ونيسي ونصر محضاوي وليد الجباهي واسامة عبيد الله وايمن زايدي وامين حمرون وطه معتز جعفر واسامة ودرني وادام وهابي.
والعمل نتاج جمعية المسرح الصغير بمدنين ضمن مشروع " فاعل.ة - السياسات الشبابية ومشاركة الشباب في السياسات العمومية في تونس" من قبل المركز الدولي للتنمية المحلية والحكم الرشيد، وذلك بتمويل من الاتحاد الأوروبي وبدعم من مملكة هولندا.
حين يقرر ذوي الهمم الصعود على الركح تكسر ارادتهم كل القيود
المسرح حياة، المسرح نداء مستمر للمقاومة وشغف ازلي للتحرر، المسرح حرية ومن يصعد على الركح تسكنه روح جبارة ليحلق كما زوربا راقصا في مجازات الانسانية والحب، "احكيلي" نص موجع، فكرة مقدسة وعمل مسرحي ينصت للقلوب المرهفة ويكتب حكايات العظماء، على الركح اجتمع 16 مواطنا فنانا من ذوي الهمم في مسرحية تنطق قلوب ممثليها وتقول " هذا انا ، ذاك الشخص المختلف احيانا، قاسي القلب احيانا اخرى، انا، ذاك الشخص المحب للحياة، بكل ما فيها من انتقادات، وكلام قاسي على القلب ، جارح، رغم كل ذالك، هناك شيء ما، يجعلك تحب الحياة، مع شروق كل يوم يتجدد الامل في غد افضل، فيه مصير قد يكون مجهولا، لكن مليء بالحب و الحياة، هذا انا، كل يوم اتمنى ان اكون مختلفا فيه، ليست بامنية صعبة المنال، ولكن قليل من الحب، قليل من الاحترام، حتى نكتسب الثقة من جديد و نصلح ما يمكن في مجتمع لا يرحم، لا كبير و لا صغير، لا مريضا و لا ضعيف، لا نريد سوى حياة بسيطة، فيها كل متطلبات الحياة ... هذا انا ... مختلف .. ورغم اختلافي ... احب الحياة" والنص يكون شرارة انطلاق العمل بصوت مخرجه كريم الخرشوفي.
"احكيلي" هو عنوان العمل المسرحي، انفلات من مساحة الكوميديا الى عمق التراجيديا، مزيج بين مدارس مسرحية مختلفة من الكلاسيكي الى المعاصر، نحت في ذات الانسان واخراج للفنان القابع داخله، تجربة مسرحية تحترم مقومات العمل المسرحي من سينوغرافي الى النص والموسيقى والاداء التمثيلي وتحترم المتفرج وتغوص اكثر في وجع المؤدي، مسرحية تشاكس المنظومات، السياسية والاجتماعية والقانونية والتربوية ويضع الممثلين وجعهم واحلامهم وافكارهم وحكاياتهم على الركح ويتشاركونها مع الجمهور.
"احكيلي" نص يشاكس الواقع، ينقل اصوات من لا صوت لهم، اصحاب الهمم بانفسهم سيكونون الحكاية والراوي، هم الممثلين واصحاب فكرة النص وهم مثّلوا قصصهم امام جمهور المسرح، تبدئ القصة بالكاستينغ، فضاء المسرح الصغير يفتح ابواب لكاستينغ لاختيار ممثلين، يقرر ابناء جمعية المعوقين المشاركة في الكاستينغ، ومنذ لحظة التفكير تبدئ المشاكل وتقدم جميعها في مشاهد متصلة ومنفصلة، فهم تارة ممثلين وطورا مواطنين معنيين بتغيير حياتهم وفي كل مشهد يكون احدهم بطل القصة ليقدم حكايته واعاقته ووجعه المختلف ولكن جميعهم يتشاركون في نظرة الاخر الدونية لهم والصعوبات الادارية التي يواجهونها.
اول المشاكل مصعد الحافلة المعطّل ان كانت الحافلة في وضعية عمل ما يجبر المرافقين دوما لحمل الكراسي المتحركة بصعوبة، في اغلب الجمعيات تقال تلك الجملة الشهيرة "الكار panne" وهو ما يحرمهم من الدروس والتنقل احيانا.
يعاني اصحاب الهمم ككل مواطن تونسي من الادارة ومن جملة "ارجع غدوة" وتجسد في مطلب يقدمه الولي ليحصل على منحة لابنه المعوق، يتواصل مع الادارة حدّ تجاوز الطفل للسن القانونية، في صيغة مبالغة قدم المشهد لكنه يعكس معاناة حقيقية لذوي الهمم في منظومة ادارية ومجتمعية تعتبرهم الاقل حظا.
تطرح المسرحية المشاكل التي يعانيها ذوي الهمم في حياتهم اليومية، تنقل معاناتهم للاندماج في المجتمع فبعضهم يقضي سنوات طويلة في التعلم وبعد اعوام تكون الشهادة غير معترف بها، وقليلون من يدمجون بسرعة في المنظومة الشغلية، كما يتعرضون للتمييز وتراجع الفرص مقارنة بالانسان السليم، كل مشاكلهم جمّعت في نص مسرحي ساخر ينقد السياسات المتبعة في الجمهورية التونسية وينقد الجانب اللاانساني في العديد من البشر، فما اقبحنا في عيونهم، وما ابشع صورنا لديهم وما اصغرنا امام عظمة آمالهم، وما اشد حاجتهم للقليل من الاحترام وسط منظومة مجتمعية تقزّمهم في الكثير من المواقف وما اشدّ قوتهم وهم يحكون قصصهم في مشاهد تمثيلية وينتقلون بسلاسة بين التمثيلي والواقعي.
المسرح فعل انساني ومجال للحرية
"اؤمن ان المسرح فن للحالمين والصادقين، اعرف جيدا انّ العمل معهم كان تحديا متعبا ومخيفا في الوقت ذاته، ولكن المسرح فعل نبيل معه نقدر على تحطيم اكثر الصعوبات والعمل مع ذوي الهمم كان مغريا ومختلفا، اعترف ان التجربة انسانية واضافت لي الكثير، صدقا تعلمت منهم ربما اكثر مما قدمت لهم، يكفي انني شعرت بانسانيتي، وارجو ان يسامحوا قسوتي عليهم اثناء التدريبات، فعلي الخشبة اعترف فقط بممثل ايا كانت الوضعية الجسدية او الاختلاف فذاك امر ثانوي، والعمل نتيجة عمل اشهر طويلة" حسب تعبير كريم الخرشوفي مخرج العمل للمغرب.
وتعدّ "احكيلي" تجربة ملهمة تُبرز القوة والعزيمة التي يمتلكها الأفراد ذوي الهمم، وتدعوا المجتمع لتقدير إمكانياتهم والتفاعل معهم بطرق أكثر إيجابية واحتواء. إن هذا العمل الفني يظل خير مثال على قوة الفن في تغيير التصورات الاجتماعية وتعزيز حقوق الإنسان.
يصنع المسرح المعجزات، يدافع المسرح عن حقوق الانسان ويعلّمها للاطفال ويقدمها للجمهور في شكل اعمال وافكار، والمسرح الصغير بمدنين مساحة للحرية والدفاع عن الحقوق، فضاء للحياة لكتابة الاحلام بطرق مختلفة، انجز الفضاء العديد من الاعمال والتجارب المميزة وتعتبر تجربة مختبر وعمل "احكيلي" دفاع حقيقي عن الانسان وصرخة موجعة ضد كل انواع التمييز.